من أنا

صورتي
الأستاذ ريوقي عبد الحليم أستاذ جامعي رئيس تحرير مجلة علمية محكمة عضو خلية الذخيرة العربية بالمجمع الجزائري للغة العربية رئيس منتدى البحوث والدراسات والترجمة يمتلك خبرة 12 سنة في عالم الكتاب والتوثيق والمعارض الولائية والوطنية والدولية مارس الإدارة لأكثر من ستة سنوات في مجالات مختلفة مارس الصحافة لأكثر من سنتين

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2010

السرقات الأدبية وتوارد الخواطر بين النقد العربي القديم والغربي الحديث

السرقات الأدبية وتوارد الخواطر

بين النقد العربي القديم والنقد الغربي الحديث

الأستاذ ريوقي عبد الحليم

المجمع الجزائري للغة العربية

مقدمة

التفكير نبع الإبداع والاختراع، ويسعى كل واحد من المفكرين والمبدعين إلى أمرين إما تطوير ما كان قبله، أو اختراع شيء لم يسبقه إليه أحد، "فالمفكرون رأس مالهم في الحياة هو أفكارهم التي امتدوا إليها بعقولهم النيرة وببصيرتهم النافذة، وقريحتهم الوقادة وتجاربهم الكثيرة "[1]، "وكثيرا ما يبتلى أرباب هذا الفن بمثل ما يبتلى به أصحاب الأموال والمتاع من حسد الحساد، وطمع الطامعين فينسبون إلى أنفسهم ما يستجيدونه من أدبهم "[2] .

وإن كان الناس قديما لا يوجد ما يحميهم من السرقات الأدبية والفكرية فالأمر اليوم اختلف، وأصبحت هناك ملكية فكرية وأدبية، ولها محاكم خاصة بها، ويعاقب السارق الأدبي أو الفكري مثلما يعاقب سارق ما في الحرز تماما، بغرامة أو تعويض عن الضرر المعنوي والمادي، وقد تصل حتى إلى السجن عند العجز عن السداد.

فالسّرقة الأدبيّة قديمة قدم الإبداع الأدبي، "فأسطورة أوديب [على سبيل المثال هي] أسطورة قديمة ألّفها "هوميروس" في نصف القرن التّاسع قبل الميلاد في النّشيد الحادي عشر من ملحمة الأديسيا، وفي القرن الخامس قبل الميلاد جاء ثلاثة شعراء يونانيين كبار هم: "أسخيلوس"،"سوفوكليس" و"يوربيديس"، وأعادوا كتابتها لإعجابهم بها، وأعادها كتاب كثيرون مثل الشّاعر الإنجليزي "دريدن" في القرن السّابع عشر بعد الميلاد، والشّاعر الإيطالي "الفييري" في القرن الثّامن عشر بعد الميلاد، أمّا الفرنسيون فقد فتن شعراؤهم، وكتابهم بقصّة أوديب منذ أواخر القرن السّادس عشر إلى أن وضع كورناي قصّة تمثيلية لأوديب فتن بها معاصريه"[3].

والسرقات الأدبية عرفت طريقها إلى الفكر العربي منذ العصر الجاهلي وحسبنا هنا قول طرفة بن العبد ( ت حوالي 72 ق هـ) :

ولا أغير عــلى الأشعار أسرقها عنها غنيـــت وشرّ النّاس من سرقا

وإن أحسن بيت أنت قائـــله بيت يقـــال إذا أنشــدته صدقا[4]

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في شعره الذي قاله قبل إسلامه (ت 50هـ):

لا أسرق الشّعراء ما نطقوا بل لا يوافق شعرهم شعري

إنّي أبي لي ذلكم حسبــيّ ومقالة كمـــقاطع الصّخر

وأخي من الجنّ البصـير إذا حاك الكــلام بأحسن الحبر[5]

وقال الفرزدق (ت 114هـ) يهجو جرير :

لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم وأوابدي بتنحل الأشعار[6]

وقال جرير (ت 114 هـ) يهجو الرّاعي النّميري :

ستعلم من يصير أبوه قينا ومن عرفت قصائده اجتلابا[7]

قال الحاتمي معلقا على هذا البيت :"وما أراه أراد بالاجتلاب هاهنا إلاّ السّرق والانتحال"[8].

وأول كتاب ألف حول السرقات هو كتاب " سرقات الكميت من القرآن ومن غيره " لابن كناسة النحوي ( ت207 هـ) [9]، وهذا ما ينفي القول بأن " لفظة "سرقات" قد ذاعت وسط الخصومة حول أبي تمّام[(ت231هـ)] بين أنصار القديم، وأنصار الحديث"[10]، وكذلك قول محمد مندور:" بأن "أوّل كتاب ألّف بهذا العنوان فيما نعلم كتاب عبد الله بن المعتز [ت 296 هـ] "سرقات الشّعراء"[11].

وساهمت الخصومات بين الشعراء في إثراء جانب السرقات الأدبية كما كان لها الأثر سيّء في توجيهها، فرأيناها تسعى قبل كلّ شيء إلى تجريح الشّعراء، و لم يفرقوا بين السّرقة وغيرها [ كتوارد الخواطر والتمثل والاستشهاد،والتأثر...][12]، ومن بين هذه الخصومات نجد الخصومات التي أثيرت حول أبي تمام والمتنبي، ففي الأول "ألّف أحمد بن أبي طاهر، وأحمد بن عمّار في سرقات المتنبّي،وكتب أبو الضّياء بشر بن تميم كتابا في سرقات البحتري[(ت 285 هـ)] من أبي تمّام[(ت231هـ)]، كما رأينا أبا علي محمّد بن العلاء السّجستاني يزعم أنّه لم يخلص لأبي تمّام من معانيه كلّها إلاّ ثلاثة، وكتب مهلهل بن يموت في سرقات أبي نواس، ولقد تناول الآمدي نفسه تلك المشكلة في "الموازنة" وفي كتابيه المفقودين "الخاصّ والمشترك"،و"في أنّ الشّاعرين لا تتفق خواطرهما"[13].

وفي الثاني ألف كتاب "المنصف للسارق والمسروق من المتنبي" لابن وكيع التنسي، وكتاب " الرسالة الموضحة في ذكر سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره " للحاتمي،وكتاب "الكشف عن مساوئ المتنبي" للصاحب بن عباد، والقاضي عبد العزيز الجرجاني(ت392هـ) في كتابه " الوساطة بين المتنبّي وخصومه"،وابن بسام النّحوي في كتابه " سرقات المتنبّي ومشكل معانيه"، والعميدي أبو سعيد محمّد بن أحمد (ت 433 هـ)في كتابه " الإبانة عن سرقات المتنبّي"[14].

وإن كانت هناك كتب تطرق باب السرقات عند شاعر محدد، فهناك كتب تطرقت لأنواع السرقات الأدبية، مع التمثيل لها لعدة شعراء، ومن بين هذه الكتب حلية المحاضرة للحاتمي(ت388هـ)، والعمدة لابن رشيق القيرواني(ت456هـ)، والمثل السائر لابن الأثير(ت 637 هـ)، وعبد القاهر الجرجاني(ت471هـ) في كتابه أسرار البلاغة، والخطيب القزويني(ت739هـ) في كتابه الإيضاح على تلخيص المفتاح، وإن تنوعت الأنواع بين هذا الكتاب وذاك إلا أن هناك بعض الأنواع كانت متماثلة لكنها تختلف في الأسماء فقط، وإن كانت في مجملها لا تخرج عن نطاق" سرقات أسلوبية، سرقات لفظية، وسرقات معنوية، والسرقات المعنوية كثيرة ومتنوعة وهي أخطر من السرقات اللفظية "[15]، لأن السارق على مستوى الألفاظ أمره مكشوف وظاهر، عكس سارق المعاني فهو يعمد إلى إخفاء مسروقه وطمس معالمه، حتى يصبح أمر اكتشاف السرقة أمرا صعبا، حتى على القارئ الحصيف.

والسرقة الأدبية مردها إلى الإعجاب ببيت أو معنى أو تركيب، أو حتى بعمل بكامله، ومحاولة صرفه للنفس، كما أنه يمكن أن يكون الحكم جائرا وإدانة في غير محلها، لأن السقوط في دائرة السرقة الأدبية يكاد يكون حتميا بحكم التأثر والتتلمذ، واللاوعي، وما غرس في كل النفوس من طرائق التعبير والتفكير، ونجد الكثير من النّقّاد المتقدّمين يؤكدون بأنّ السّقوط في دائرة السّرقة أمر لا مفر منه، فقد يكون التعبير نابعا مما استقر في كل النفوس، أو من العادات المشتركة أو البيئة الواحدة، أو توارد خواطر، ويقول عبد القاهر الجرجاني: "وأمّا الاتّفاق في وجه الدّلالة على الغرض فيجب أن ينظر فإن كان مما يشترك النّاس في معرفته، وكان مستقرّا في العقول، والعادات [...]، وإن كان خصوصا في المعنى حكم العموم الّذي تقدم ذكره فمن ذلك التّشبيه بالأسد في الشّجاعة، وبالبحر في السّخاء"[16]، وكذلك البيئة لها أثرها في تضارع الأفكار يقول أبو هلال العسكري(ت395هـ): "وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، وفي أرض واحدة فإنّ خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم، وشمائلهم تكون متضارعة"[17]، فالخواطر تقع متقاربة في التعبير والتفكير والإبداع الأدبي بحكم ما استقر في كل النفوس، واشتركت فيه، أو عامل البيئة الواحة التي تفرض نمطا واحدا في التفكير والتعابير.

ويقول الجاحظ (ت 255 هـ):"لا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تامّ، أو في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلاّ وكلّ من جاء من الشّعراء من بعده، أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره، فإنّه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكا فيه"[18]، ويعني قول الجاحظ أنك مهما حاولت جاهدا لإبداع قول أو تعبير إلا وجدت من سبق إليه، ويقول ابن طباطبا (ت 366 هـ) :"إن الشّعراء السّابقين غلبوا على المعاني الشّعرية فضاق السّبيل أمام المحدثين، ولم يكن من الأخذ بدّ"[19]، ويذهب الآمدي (ت370هـ) في هذا الطّريق إذ يقول: "إنّ السّرقة ليست من مساوئ الشّعراء، وخاصّة المتأخّرين إذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدّم، ولا متأخّر"[20]، وهذه الأقوال تصب في خانة بأن المتقدم لم يترك للمتأخر شيئا يطرقه، وهو ما يدعم قول الجاحظ السابق، كما أن هناك أمورا تشترك فيها العامة من الناس، وذكر هذا عبد القاهر الجرجاني إذ قال: "وأعلم أنّ الشّاعرين إذا اتفقا لم يخل ذلك من أن يكون في الغرض على الجملة، والعموم أو في وجه الدّلالة على الغرض، والاشتراك في الغرض على العموم أن يقصد كلّ واحد منهما وصف ممدوحه بالشّجاعة والسّخاء أو حسن الوجه والبهاء، أو وصف فرسه بالسّرعة، وما جرى هذا المجرى "[21]، "أمّا الاتّفاق في عموم الغرض فما لا يكون الاشتراك فيه داخلا في الأخذ والسّرقة، والاستمرار، والاستعانة لا ترى من به حسّ يدّعي ذلك، ويأتي الحكم بأنّه لا يدخل في باب الأخذ، وإنّما يقع الغلط من بعض من لا يحسن التّحصيل"[22]، "وأمّا الاتّفاق في وجه الدّلالة على الغرض فيجب أن ينظر فإن كان مما يشترك النّاس في معرفته، وكان مستقرّا في العقول، والعادات فإنّ حكم ذلك، وإن كان خصوصا في المعنى حكم العموم الّذي تقدم ذكره فمن ذلك التّشبيه بالأسد في الشّجاعة، وبالبحر في السّخاء"[23].

يقول ابن رشيق القيرواني (ت 456 هـ) عن السّرقة: "هذا باب متّسع جدّا لا يقدر أحد من الشّعراء أن يدعي السّلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلاّ عن الحاذق بالصّناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى عن الجاهل الغافل"[24]، فابن رشيق قسم السرقات إلى سرقات مردها أشياء غامضة، ومن هذا توارد الخواطر في الأفكار، أو التأثر، والتتلمذ، واللاوعي في توارد النصوص، وسرقات مفضوحة لا تخفى على أحد، قال محمد مندور في هذا:" التّأثّر: وهو أن يأخذ شاعر، أو كاتب بمذهب غيره في الفنّ، والأسلوب، ولقد يكون هذا التّأثّر تتلمذا، كما قد يكون عن غير وعي، إنّما النّقد هو الذي يكشف عنه"[25]، وقضية اللاوعي في طفو النصوص على سطح المبدع، فهو يكون قد التهمها سابقا ثم نسيها، وعندما تظهر على لسانه يبدو له وكأنه التقى بها أول مرة [26]، وقسم آخر السرقة فيها ثابتة لا ترد إلا لطمع طامع فيها.

كما أن هناك قضية أخرى قلما تشير إليها المراجع والمصادر، وهي أن بعض الشعراء والكتاب يكيدون لبعضهم بالسرقة وهي ليست بسرقة، بل هي من باب الحط من قيمة الطرف الآخر أو الفوز بجائزة أو لحاجة في أنفسهم، ومثال على هذا نورد هذه القصة: " قال الأصمعي بعث إلي محمد بن هارون فدخلت عليه، وفي يده كتاب يديم النظر فيه ويتعجب منه، فقال لي: يا عبد الملك أما تعجب من هذا الشاب، وما يجيء به، فقلت: من هو، فقال : عباس بن الأحنف، ثم رمى إلي الكتاب فإذا فيه شعر قاله عباس وهو:

إذا ما شئت أن تصـ نع شيئا يعجب الناس

فصـــور ههنا فوزا وصــور ثم عباسا

فإن لم يــدنوا حتى ترى رأسيهما راسا

فكذبها بما قاســت وكــذبه بما قاسى

قال الأصمعي: وكان بيني وبين عباس شيء فقلت : مسترق يا أمير المؤمنين، قال : ممن، قلت: من العرب والعجم، قال ما كان من العرب، قلت: رجل يقال له عمر هوى جارية يقال لها قمر فقال:

إذا ما شئت أن تصـ نع شيئا يعجب البشرا

فصــور ههنا عمرا وصـــور ثم قمرا

فإن لم يــدنوا حتى ترى بشريهما بشرا

فكــذبها بما ذكرت وكـذبه بما ذكرا

قال: فما كان من العجم ؟ قلت رجل يقال فلقا هوى جارية تدعى روق فقال :

إذا ما شئت أن تصـ نع شيئا يعجب الخلقا

فصــور هاهنا روقا وصـــور ثم فلقا

فإن لم يدنــوا حتى ترى خلقيهما خلقا

فكـــذبها بما لاقت وكــذبه بما يلقى

فينما نحن كذلك إذ جاء الحاجب فقال عباس بالباب، فقال: إيذن له، فدخل، فقال له: يا عباس تسرق معاني الشعر وتدعيه، فقال: ما سبقني أحد، فقال محمد: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثم قال: يا غلام ادفع جائزة للأصمعي، فلما خرجنا قال عباس: كذبتني وأبطلت جائزتي، فقلت أتذكر يوم كذا ثم أنشأت أقول :

إذا وترت أمرا فاحذر عداواته من يزرع الشوك لا يجني به عنبا"[27]

ومن هذه القصة نرى بأن الأصمعي سرّق عباس بن الأحنف، وهو ليس بسارق، هذا أولا، وثانيا فالأصمعي رد ما اتهمه به عباس بالسرقة يوما، لأنه قال له: أتذكر يوم كذا وكذا، فهذه القصة ذكرها الزجاجي( ت 340هـ) في كتابه " مجالس العلماء" فقد نجدها في كتب أخرى بأنها ثابتة السرقة عند عباس أو الأصمعي في ما مضى، وهذا الأمر وجب التنبيه عليه أيضا، ولكن الكثير من المراجع تهمله، بل حتى من المصادر.

أنواع السرقات الأدبية :

كما وسبق وأن ذكرنا بأن العلماء من ألف كتبا في سرقات عند شاعر معين، وهناك من ألف في أنواع السرقات الأدبية على العموم، وضربوا لها أمثلة من أشعار مختلفة، وإن كنا لا نستطيع إيراد كل الأنواع عند كل العلماء، وهذا لن يتحقق مهما أوتينا من قوة، وخصصنا أنواع السرقات عند الحاتمي، ابن رشيق القيرواني، عبد القاهر الجرجاني، ابن الأثير، والخطيب القزويني، وما تبعه من الشراح لكتابه الشهير الإيضاح.

وبعد أن نظرنا في هذه الأنواع وجدنا أن هناك أنواعا مشتركة بين العلماء السابقين، وأسماءها مختلفة، وعلى هذا لا نذكر الأنواع عند كل عالم بل سنذكر كل نوع وما سماه كل عالم من اسم، لأن بعض الأنواع وإن تعددت فهي واحدة، وإن اختلفت التسميات من عالم إلى آخر، وحتى لا نقع في التكرار سندرج هذه الأنواع تحت أربع أقسام، ثلاثة من تقسيم بعض الدارسين المحدثين، وهي 1- سرقات أسلوبية،2- سرقات لفظية،3- سرقات معنوية[28]، وقسم رابع من عندنا وهو4- المواردة والمساعدة، لأننا رأينا بأن هناك نوع رابع لا ينتمي لا للسرقات المعنوية ولا اللفظية ولا الأسلوبية، وهو ما سميناه بالمواردة والمساعدة حتى يكون شاملا للأنواع المنطوية عليها، وإن كنا نجد من المتقدمين من يجعل السرقات على نوعين فقط مثلما فعل القزويني عنما قسم السرقات إلى نوعين ظاهرة وغير ظاهرة [29]، ونفصل هذه الأقسام الأربعة كما يلي :

أولا - سرقات معنوية:

بدأنا بالسرقات المعنوية لأن السرقات الأدبية في جانب المعنى هي الأكثر تناولا عند النقاد المتقدمين، وأكثرها شيوعا عند السارقين، لأن أخذ الألفاظ والمعاني معا هي الأسهل اكتشافا، لكن أخذ المعنى وطمس معالمه، يصعب من عملية الاكتشاف بل حتى أن السارق يعمد لإخفاء مسروقه، فكذلك السارق الأدبي يعمد لإخفاء مسروقه بأخذ المعنى فقط، وتغييره، حتى لا يكشف أمره، وأنواع السرقات المعنوية أكثر من السرقات اللفظية والأسلوبية، وهي أخطر أنواع السرقات عموما.

وأبو هلال العسكري عندما يتكلم عن حسن الأخذ، وتناول المعاني يقول: "ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممّن تقدمهم والصّبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حلّتها الأولى، ويزيدوها في حسن تأليفها، وجودة تراكيبها، وكمال حليتها، ومعرضها فإذا فعلوا ذلك فهم أحقّ بها ممّن سبق إليها"[30]، ويقول أيضا :"وقد أطبق المتقدّمون، والمتأخّرون على تداول المعاني بينهم فليس على أحد فيه عيب إلاّ إذا أخذه بلفظه كلّه أو أخذه فأفسده، وقصر فيه عمن تقدمه، وربّما أخذ الشّاعر القول المشهور ولم يبال"[31]، فالمبرّد(285هـ) أيضا لا يرى عيبا في أن يؤخذ المعنى، ويزاد عليه بتعبير أحسن مما كان عليه [32]، وعبد القاهر الجرجاني يرفض هذا لأنّ أخذ المعنى لا يمكن أن نكسوه لفظا من عندنا، ويبقى قائما بذاته إلاّ إذا غيرنا لفظا بمرادفه، وهذا ما نلمسه من قوله: "وممّا إذا تفكر فيه العاقل أطال التّعجب من أمر النّاس، ومن شدّة غفلتهم قول العلماء حيث ذكروا السّرقة، والأخذ أنّ من أخذ معنى عاريا فكساه لفظا من عنده كان أحقّ به"، وهو كلام مشهور مبتذل"[33]، "لأنّه لا يتصور أنّ يكون صورة المعنى في أحد الكلامين، أو البيتين مثل صورته في الأخذ لبيت، اللّهم أن يعمد عامد إلى البيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة في معناها، ولا يعرض لنظمه،وتأليفه"[34]. فمثل أن يقول في بيت الحطيئة :

دع المكارم ولا ترحل لبغيتها واقعد فأنــت الطّاعم الكاسي

[فيقول]: دع المفاخر ولا تذهب لمطلبها واجلس فإنّك أنت الآكل اللابس[35]

هذا إن كان باللغة العربية مترادفات، غير أن الكثير من العلماء يؤكدون بأن لكل كلمة دلالتها، ولا يمكن لكلمة أخرى حتى وإن كانت مرادفة لها أن تشغل الحيز الدلالي لكلمة أخرى بشكل كلي، فلكل كلمة مقامها ودلالتها.

وأنواع السرقات المعنوية هي: الاختلاس، الإلمام، النظر والملاحظة، الاهتدام، المجدود، كشف المعنى، الإغارة، الالتقاط والتلفيق عند ابن رشيق القيرواني والحاتمي، والمسخ،السلخ، عند ابن الأثير، وجعلها القزويني على نوعين الإغارة والمسخ، والإلمام والسلخ، قصد القزويني بهذا التقسيم أي هناك سرقات على مستوى المعنى ظاهرة سهلة الكشف، وأخرى غير ظاهرة صعبة الكشف، ومن هذا التقسيم الأخير نقسم السرقات المعنوية على قسمين هما :

السرقات المعنوية الظاهرة: وهي سرقات سهلة الكشف، ويمكن الوقوف على أمرها، ومصدرها، بيسر وسهولة، هذا طبعا لمن يمتلك رصيدا لا بأس به من المرجعيات الثقافية، والفكرية والأدبية.، وهي "إن كان مع تغيير لنظمه،وكان المأخوذ بعضه سمّي إغارة، ومسخا"[36].

وهو على ثلاث أضرب :

- عندما يكون الثاني أبلغ من الأوّل.

- وقد يكون أدوّن منه.

- وقد يكون مثله أو مساويا له. [37]

وهذا القول والتفصيل لا يخرج عن ما قاله عبد القاهر الجرجاني حيث يقول :"وإن كان ممّا ينتهي إليه المتكلّم بنظر، وتدبر،ويناله بطلب، واجتهاد [...]، وبهذا الشّرط يكون إمكانه، فهو الذي يجوز أن يدعي فيه الاختصاص، والسّبق، والتّقدّم، والأولية، وأن يجعل فيه سلف، وخلف، ومفيد، ومستفيد، وأن يقضي بين القائلين فيه بالتّفاضل، والتّباين، وأن أحدهما فيه أكمل من الآخر، وأنّ الثّاني زاد على الأوّل أو نقص عنه، وترقى إلى غاية أبعد من غايته، أو انحطّ إلى منزلة هي دون منزلته"[38].

الإغارة : "أن يضع الشّاعر بيتا، ويخترع معنى مليحا فيتناوله من هو أعظم منه ذكرا، وأبعد صوتا فيروى له دون قائله كما فعل الفرزدق بجميل[بن معمر]، وقد سمعه ينشد:

ترى النّاس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا للنّاس توقفوا

فقال [الفرزدق]: متى كان الملك في بني غدرة ؟، إنّما هو في مضر، وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل، ولا أسقطه من شعره"[39]، فالإغارة والسلب وجهان لعملة واحدة، غير أن الإغارة هي أخذ من غير أن يتنازل صاحبه عن مأخوذه، والسلب هو أخذ مع تنازل صاحب المأخوذ عنه، وسنأتي على ذكر السلب.

المسخ " أمّا المسخ: فهو قلب الصّورة الحسنة إلى صورة قبيحة، والقسمة تقتضي أن يقرن إليه ضدّه، وهو قلب الصّورة القبيحة إلى صورة حسنة فالأوّل كقول أبي تمّام:

فتى لا يرى أنّ الفريضة مقتل ولكن يرى أن ّالعيوب مقاتل

وقول أبي الطّيّب المتنبّي :

يرى أنّ ما بان منك لضارب بأقتل ممّا بان منك لعائب

فهو وإن لم يشوّه المعنى فقد شوّه الصّورة "[40].

"أما قلب الصّورة القبيحة إلى صورة حسنة، فهذا لا يسمّى سرقة بل يسمّى إصلاحا، وتهذيبا، فمن ذلك قول أبي الطّيّب المتنبّي:

لو كان ما تعطيهم من قبل أن تعطيهم لم يعرفوا التّأميلا

وقول ابن نباتة السّعدي:

لم يبق جودك لي شيئا أومله تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل"[41]

فالصّورة عند ابن نباتة أحسن وأجمل إذ أن جود ممدوح ابن نباتة السّعدي هو الّذي قضى على الأمل فكلّ ما يطلب موجود من غير أمل منه، أما جود ممدوح المتنبّي هو دافع الأمل بل به وجد ليطلب أكثر.

"وإن كان المأخوذ المعنى وحده سمّي إلماما، وسلخا، وهو ثلاثة أقسام كذلك [أبلغ، أقصر، مساو] أوّلها، كقول البحتري:

قصد حياء أن تراك بأوجه أتى الذّنب عاصيها قليم مطيعها

وقول أبي الطّيّب [المتنبّي]:

وجرم جره سفهاء قوم وحلّ بغير جارمه العذاب

فإنّ أبا الطيـّب أحـسن سبـكا، وكأنّه اقتبسه من قوله [ تعالى] " ﭽ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﭼ[42] -[43].

الإلمام :" وهو ضرب من النّظر [والملاحظة]، وهو مثل قول أبي الشيص:

أجد الملامة في هواك لذيذة

وقول أبي الطّيّب [المتنبّي] : أأحبه وأحبّ الملامة فيه"[44].

وضع ابن رشيق القيرواني الإلمام ضرب من النظر والملاحظة، وهو نوع أيضا من السرقات المعنوية، وجعلنا الإلمام في باب السرقات المعنوية الظاهرة، وجعلنا النظر والملاحظة في باب السرقات المعنوية غير الظاهرة بسبب أن الإلمام ظاهر أمره ويمكن الكشف عن جانب السرقة فيه ببساطة، لكن النظر والملاحظة عكس ذلك .­

السرقات المعنوية غير الظاهرة : وهي صعبة في كشفها، فالسارق يعمد لإخفائها بشكل جيد محكم، ولا يقف عليها إلا الحصيف من الناس، قال فيها القزويني : "وأمّا غير الظّاهر فهو على عدّة أضرب، أولا- فمنه أن يتشابه معنى الأوّل، ومعنى الثّاني،[...] كقول أبي العلاء المعرّي في مرثية:

وما كلفة البدر المنير قديمة ولكنّها في وجهه أثر اللطم

وقول القيسراني:

وأهوى الّذي أهوى له البدر ساجدا ألست ترى في وجهه أثر التّرب"[45].

ثانيا- "ومنه النّقل، وهو أن ينقل معنى الأوّل إلى غير محلّه".

ثالثا-" ومنه أن يكون المعنى الثّاني أشمل من معنى الأوّل".

رابعا-" ومنه القلب، وهو أن يكون معنى الثّاني نقيض معنى الأوّل يسمّى ذلك لقلب المعنى إلى نقيضه".

خامسا-" ومنه أن يؤخذ بعض المعنى، ويضاف إليه زيادة حسنة".

سادسا- "ومنها ما أخرجه حقّ التّصرف من قليل الأخذ، و الإتباع إلى حيّز الاختراع، والابتداع، وكلّما كان أشدّ خفاء كان أقرب إلى القبول"[46].

السلخ: "أما السّلخ فإنّه ينقسم إلى اثني عشر ضربا، وهذا تقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته أنّه لم يبق شيء خارج عنه.

- فالأوّل أن يؤخذ المعنى، ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إيّاه، وهذا من أدقّ السّرقات مذهبا، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلاّ قليلا، فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة [الطّرماح بن حكيم الطّائي]:

لقد زادني حبّا لنفسي أنّني بغيض إلى كلّ امرئ غير طائل

أخذ المتنبّي هذا المعنى، واستخرج منه معنى آخر غيره إلاّ أنّه شبيه به فقال :

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشّهادة لي بأنّي فاضـل

[...] فذمّ النّاقص إيّاه كبغض الّذي هو غير طائل ذلك الرّجل [الطّرماح]، وشهادة ذمّ النّاقص إيّاه بفضله كتحسين بغض الّذي هو غير طائل نفس ذلك الرّجل عنده [أي عند الطّرماح]"[47].

- "الضّرب الثّاني: أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ، وذلك مما يصعب جدا، ولا يكاد يأتي إلاّ قليلا"[48].

- "الضّرب الثّالث: وهو أخذ المعنى، ويسير من اللفظ، وذلك من أقبح السّرقات، وأظهرها شناعة على السّارق".

- "الضّرب الرّابع: وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس، وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حدّ السّرقة".

- "الضّرب الخامس: أن يؤخذ بعض المعنى".

- "الضّرب السّادس: وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر".

- "الضّرب السّابع: وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى".

- "الضّرب الثّامن: وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا، وذلك أحسن من السّرقات لما فيه من الدّلالة على بسطة النّاظم في القول، وسعه باعه في البلاغة"

- "الضّرب التّاسع: وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصّا، أو خاصّا فيجعل عاما".

-" الضّرب العاشر: وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى، وذلك بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه"

-" الضّرب الحادي عشر : وهو اتّحاد الطريق، واختلاف المقصد، ومثاله أن يسلك الشّاعران طريقا واحدة فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين، و هناك يتبين فضـل أحـدهما على الآخر"[49] -

النّظر والملاحظة: قال أبو علي الحاتمي:" وهذه ضروب من الإشارة إلى المعنى، وإخفاء السّرّ"[50] فمثل قول المهلهل :

انتضوا معجس القسي وابرقـ ـا كما توعد الفحول الفحولا

نظر إليه زهير بقوله :

يطعنهم ما ارتموا حتّى إذا طعنوا ضارب حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقا

وأبو ذؤيب بقوله :

ضروب لهامات الرجال بسيفه إذا حنّ نبع بينهم وشريح[51] .

فالنظر والملاحظة هو أخذ بعض المعنى، والإلمام الذي مر معنا هو أخذ جل المعنى، فالنظر والملاحظة هنا هو بمثابة تركيز نظرك على أمر ما فتأخذ عنه الكثير من الملامح والأوصاف.

كشف المعنى:"وإبرازه بزيادة منه تزيده نصاعة وبراعة"[52].

نحو قول امرئ القيس :

نمش بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب

وقال عبدة بن الطبيب:

ثمت قمنا إلى جرد مسوّمة أعرافهن لأيدينا مناديل

فكشف المعنى،وأبرزه"[53]، وكشف المعنى هو أخذ المعنى بزيادة حسنة عليه، وإظهاره في صورة أحسن مما كان عليه.

الالتقاط والتّلفيق :"وهي ترقيع الألفاظ، وتلفيقها، واجتذاب الكلام من أبيات حتّى ينظم بيتا"[54]

مثل قول يزيد بن طثرية:

إذا ما رآني مقبلا غضّ طرفه كأنّ شعاع الشّمس دوني يقابله

فأوّله من قول جميل [بن معمر]:

إذا ما رأوني طالعا من ثنية يقولون : من هذا ؟ وقد عرفوني

ووسطه من قول جرير:

فغضّ الطّرف إنّك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وعجزه من قول عنترة الطّائي :

إذا أبصرتني أعرضت عني كأنّ الشّمس من حولي تدور[55].

الالتقاط والتلفيق هو أن يكون في البيت أكثر من معنى واحد، من معاني أخرى سبقت معناك.

الاختلاس : "فهو كقول أبي نواس:

ملك تصور في القلوب مثاله فكأنّه لم يخل منه مكان

اختلسه من قول كثير [عزّة]:

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثل لي ليلى بكلّ سبيل"[56].

الاختلاس هنا بمثابة اختلاس النظر في أمر ما، فتأخذ بعضا مما اختلست النظر فيه.

الاهتدام :"وهو افتعال من الهدم فكأنه هدم البيت من الشّعر تشبيها بهدم البيت من البناء"[57] "نحو قول النّجاشي :

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمت فيها يد الحدثان

فأخذ كثير [عزة] القسم الأوّل، واهتدم باقي البيت فجاء المعنى في غير لفظ فقال:

ورجل رمى فيها الزّمان فشلت"[58].

المجدود : "وأمّا المجدود من الشّعر فنحو قول عنترة العبسي:

وكما علمت شمائلي وتكرمي

رزق جدّة واشتهارا على قول امرئ القيس:

وشمائلي ما قد علمت وما نبحت كلابك طارقا مثلي"[59]

ثانيا - سرقات لفظية:

يقصد بالسرقات اللفظية أخذ بيت أو أكثر أو ما دونه بلفظه ودون تغيير وصرفه للنفس، على أن الآخذ هو القائل، وليس عن طريق التضمين، والذي هو إدراج بيت من الشعر أو ما دونه أو أكثر منه في الشعر على أنه هو قائله، لكن من الشعر المشهور، والذي لا يمكن إدعاؤه للنفس وإن لم يكن مشهورا وجب التنبيه عليه كما قال العلماء المتقدمون، والسرقات اللفظية من هذا الشكل الأول وليس الثاني، سماه العلماء بعدة أسماء، فسماه الحاتمي اصطرافا واجتلابا، وسماه ابن الأثير نسخا، ووضعه القزويني في السرقات أو الأخذ الظاهر إن لم يغير فيه، وابن رشيق سماه الغصب إن أخذ تحت التهديد بالقوة من صاحبه وتهديده بهجائه مثلا، ويسميه محمد مفتاح بالتطابق، وهذه بعض الشواهد لهذا النوع من السرقات وتفصيل بيانه:

سمى ابن الأثير السرقات اللفظية بالنسخ وجعله على ضربين وقال فيه :" فإنه لا يكون إلاّ في أخذ المعنى، واللفظ جميعا، أو في أخذ المعنى، وأكثر اللفظ لأنّه مأخوذ من نسخ الكتاب، وعلى ذلك فإنّه ضربان :

الضّرب الأوّل : ويسمّى وقوع الحافر على الحافر [...]كقول الفرزدق:

أتعدل أحسابا لئاما حماتها بأحسابنا إني إلى الله راجع

وكقول جرير :

أتعدل أحسابا لكراما حماتها بأحسابكم إني إلى الله راجع"[60]

وقوع الحافر على الحافر هو من باب المواردة، وهذا المثال الذي ضربه ابن الاثير ضربه ابن رشيق في باب المواردة، وهو ما سنذكره في حينه.

الضّرب الثّاني :" من النّسخ، وهو أن يؤخذ فيه المعنى، وأكثر اللفظ كقول بعض المتقدّ مين يمدح معبدا صاحب الغناء:

أجاد طويس والشّريحي بعده وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد

ثمّ قال أبو تمّام:

محاسن أصناف المغنين جمّة وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد"[61]

وسمى الحاتمي هذا النوع من السرقات بالاصطراف وجعله على نوعين : اجتلاب وانتحال وقال فيه :" الاصطراف : أن يعجب الشّاعر ببيت من الشّعر، فيصرفه إلى نفسه، فإن صرفه إليه على جهة المثل فهو اجتلاب، واستلحاق، وإن ادّعاه جملة فهو انتحال، ولا يقال منتحل إلاّ لمن ادّعى شعرا لغيره، وهو يقول الشّعر، وأما إن كان لا يقول الشّعر فهو مدّع غير منتحل"[62].

- فالاصطراف الذي هو اجتلاب واستلحاق :

"كما قال زياد الأعجم :

أشمّ إذا ما جئت للعرف طالبا حيال بما تحوي عليه أنامله

ولو لم يكن في كفّه غير نفسه لجاد بها فليتّق الله ســائله

ويروى هذا لأخت يزيد بن طثرية، واستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره"[63] .

البيت في قصيدة أبي تمـّام قالها في مدح المعتصم بالله قال في مطلعها:

أجل أيعاد الرّبع الّذي حف أهله لقد أدركت فيك النّوى ما تحاوله [64].

- أمّا الاصطراف الذي هو بمثابة انتحال كقول جرير:

إنّ الّذين غذوا بلبك غـادروا وشلا بعينيك لا يزال معينا

غيّضن من عبراتهن وقلنّ لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا

فإنّ الرّواة مجمعون على أنّ البيتين للمعلوط السّعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضا قول طفيل الغنوي :

ولما التقى الحيّان ألقيت العصى ومات الهوى لما أصيب مقاتله"[65]

أما الخطيب القزويني فأدرج هذا النوع ضمن السرقات أو الأخذ الظاهر، وقال فيها :"أمّا الظّاهر فهو أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا مع اللفظ أو بعضه، وإمّا وحده "[66]، " فإن كان المأخوذ كلّه من غير تغيير لنظمه فهو مذموم مردود لأنّه سرقة محضة، ويسمّى نسخا،وانتحالا.

[...] وقد روي للأمير اليربوعي:

فتى يشتري حسن الثّناء بماله إذا السّنة الشّهباء أعوزها القطر

ولأبي نواس:

فتى يشتري حسن الثّناء بماله ويعلم أنّ الدّائـــرات تدور"[67]

"وفي هذا المعنى ما كان التّغيير فيه بإبدال كلمة أو أكثر بما يراد فيها [...]، كقول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:

وما النّاس بالنّاس الّذين عهدتهم ولا الدّار بالدّار الّتي كنت تعلم

وقول الفرزدق:

وما النّاس بالنّاس الّذين تعهدتهم ولا الدّار بالدّار الّتي كنت تعرف"[68]

وابن رشيق القيرواني ذكر نوعا يصب في هذا الوادي وهو الغصب، وهو أخذ بيت أو أكثر عن طريق الغصب بالتهديد والوعيد بالهجاء مثلا وقال فيه: "وأما الغصب فمثل صنيعه بالشّمردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل :

فما بين من لم يعط سمعا وطاعة وبـين تميم غير حزّ الحلاقم

فقال الفرزدق : والله لتدعنّه أو لتدعنّ عرضك، فقال [اليربوعي]: خذه لا بارك الله لك فيه"[69].

وقال محمد مفتاح في هذا النوع إلى جانب أنواع أخرى والذي سماه التطابق، وقال فيه: "التّطابق: نعني به تطابق نصّ مع نصّ آخر شكلا، ومضمونا"[70]، وإن كان محمد مفتاح وسع المفهوم ليشمل النصوص على اختلافها.

ثالثا - سرقات أسلوبية:

السرقات الأسلوبية لا يقصد بها سرقات اللفظ والمعنى، وإنما سرقات تتم على مستوى الأسلوب، وبالتحديد بناء الأبيات، وإن كنا نستبق الأحداث ونقول بأن هذا النوع لم يتناول بالشكل الكافي عند النقاد المتقدمين، فلقد ركزوا على سرقات المعاني، والألفاظ، وبالشكل الكبير على النوع الأول أكثر، ولا نكاد نجد أكثر من ابن رشيق القيرواني تكلم عن نوعين للسرقات من حيث الأسلوب، وإن لم يسمها بهذا الاسم، وإنما ذكرهما في جملة أنواع السرقات التي تكلم عنها، وسار على طريق ما ذكر الحاتمي، وذكر أنواعا أخرى، على ما غفل عليها الحاتمي، ومما يندرج ضمن السرقات الأسلوبية نجد ثلاثة أنواع :

العكس: والاسم دال على معناه أي أن يأخذ الشاعر بيتا أو ما دونه أو أكثر، ويقلب معناه، ويمكن أن يقول البعض هذا سرقات للمعاني، ونقول بأن السرقة ها هنا في الأسلوب أغلب، لأن الشاعر يبني على نفس الأسلوب المسروق منه، ونقدم هذا المثال حتى تتضح الرؤى:

ت للمعاني ، ونقول بأن السرقة ها هنا في الأسلوب أغلب ، لأن الشاعر يبني على نفس الأس " كقول ابن قيس، ويروي لأبي حفص البصري:

ذهب الزّمان برهط حسان الأولى كانت مناقبــهم حديث الغابر

وبقيت في خلق يحلذ ضـيوفهم منهم بمـــنزلة اللئيم الغادر

سود الوجوه لئيمة أحسابــهم فطس الأنوف من الطّراز الآخر"[71]

فالبيت الأخير هو عكس بيت حسان بن ثابت رضي الله عنه :

بيض الوجوه كريمة أحسابهم شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل[72]

ومما يلاحظ في هذا البيت هو أن الشاعر عكس كل الألفاظ في البيت المأخوذ منه، ولكن حافظ على نفس الأسلوب في البيت المأخوذ منه، وهو ما يعزز الأمر بأن ما كان على شاكلة هذا المثال هو سرقة أسلوبية، وهذا النوع إلى جانب التحاذي، التطابق، التفاعل، التداخل، سماه محمد مفتاح بالقلب، ومحمد مفتاح يضع هذه المفاهيم كمفاهيم ذات وظائف جمالية وإيديولوجية، ولم يعطها صبغة السرقات الأدبية [73].

الموازنة: الموازنة هو أن يأخذ الشاعر وزنا واحدا مع شاعر آخر في بيته، ليس من باب الوزن الشعري، ولكن من باب البناء الواحد من حيث الأسلوب، لا من حيث الألفاظ والمعاني، وهذا المثال سيزيح الغموض، ويبسط الفكرة، وهو" مثل قول كثير[ عزة] :

تقول مرضنا فما عدتنا وكيف يعود مريض مريضا

وزان في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:

بخلنا لبخلك قد تعلمين وكيف يعيب بخيل بخيلا[74]

فمن الشطر الأخير في كلا البيتين يتضح جليا أن أسلوبهما وبناؤهما واحد، وإن اختلفا في الألفاظ والمعاني، تكلم أيضا محمد مندور عن هذا النوع إلى جانب الاستحاء، استعارة الهياكل، والسرقات، وسماه التّأثّر وقال فيه :" وهو أن يأخذ شاعر، أو كاتب بمذهب غيره في الفنّ، والأسلوب،ولقد يكون هذا التّأثّر تتلمذا، كما قد يكون عن غير وعي، إنّما النّقد هو الذي يكشف عنه[75]، ومن هذا التقسيم فمحمد مندور لا يدرجه ضمن السرقات الأدبية، فقد خصها بنوع وحدها دونه.

الوزن والقافية: يعمد كثير من الشعراء من سرقة بعض المعنى وبالاحتفاظ بالوزن والقافية، فتأتي الأساليب متقاربة في هذا الباب وقال الخطيب القزويني: "وأعلم أنّ هذا الضّرب ما هو قبيح جدا،وهو ما يدل على السّرقة باتّفاق الوزن، والقافية أيضا كقول أبي تمّام:

مقيم الظّنّ عندك والأماني وإن فلقت ركابي في البلاد

ولا سافرت في الآفــــــاق إلاّ من جدواك راحلتي وزادي

وقول أبي الطّيّب [المتنبّي]:

وإنّي عنك بعد غــــــد لغـاد وقلبي عن فنائك غير غاد

محبك حيثما اتّجهت ركابي وضيفك كـنت في البلاد"[76].

وما يمكن قوله في هذا الباب هو أننا ذكرنا ثلاثة أنواع فقط في السرقات من حيث الأسلوب، ويمكن أن يكون هناك أكثر مما ذكرنا، وما أوردناه هو ما وجدنا في أقسام السرقات عند، القزويني، وابن رشبق، وابن الأثير، والحاتمي، ويمكن أن يكون هناك أنواع تصب في هذا الجانب عند غيرهم .

رابعا – المواردة والمساعدة:

قصدنا بالمواردة والمساعدة، وهو ما استدركناه على أقسام السرقة في اللفظ والمعنى والأسلوب، فمن الشعراء من تنزل أفكارهم متساوية في المعنى، أو حتى اللفظ والمعنى معا، عن طريق المواردة أي توارد الأفكار، أو عن طريق مساعدة بعضهم بعضا بيت أو بيتين، وفي هذا وذاك لا سرقة لأن في الأولى تنتفي السرقة بتوارد الأفكار، وفي الثانية هناك مساعدة والشاعر يتنازل عن بيته أو أبياته إلى صاحبه، وهذا يدخل باب الهبة وليس السرقة، بنوعيها المحمودة والمذمومة، وهنا نذكر أربعة أنواع هي : المواردة، الإجازة، التمليط، المرافدة، وتفصيلها كالتالي:

المــــواردة :

وهي أن تأتي الأفكار والأبيات متوافقة في معانيها، وحتى ألفاظها ومعانيها معا، دون أن يكون الثاني قد اطلع على ما قاله الأول، وهذا الأمر يتم عن طريق توارد الأفكار، وتكلم عنها ابن رشيق القيرواني فقال فيها : " وأمّا المواردة فقد ادّعاها قوم في بيت امرئ القيس،وطرفة،ولا أظنّ هذا ممّا يصّح "[77].

والمقصود هنا بيت امرئ القيس حين قال في معلقته:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل[78]

وبيت طرفة بن العبد في معلقته عندما قال:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد[79]

إلاّ أنّهم ذكروا أنّ طرفه لم يثبت له البيت حتى استحلف أنّه لم يسمعه قط، فحلف، وإذا صّح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر [واحد] [80]، وباب توارد الأفكار طرقه العديد من النقاد المتقدمين، والمحدثين سنرجع إليه بالتفصيل في ركن توارد الخواطر.

الإجازة :

وهو أن يقول شاعر بيتا أو شطرا، ويجيز للآخر تملكه، وضمه بالإضافة لما قال، والإجازة قال فيها ابن رشيق ما نصه: " الإجازة فإنّها بناء الشّاعر بيتا أو قسما يزيده عما قبله، وربّما أجاز بيتا أو قسما بأبيات كثيرة، فأمّا ما أجيز فيه قسيم بقسيم فقول بعضهم لأبي العتاهية: أجز

برد الماء وطـابا

فقال :

حبّذا الماء شرابا "[81]

"وأمّا ما أجيز فيه بيت فقول حسان بن ثابت وقد أرق ذات ليلة فقال :

متاريك إذ ناب الأمور إذا اعتزلت أخذنا الفروع واجتنبنا أصولها

وأجبل [أي انقطع عن الكلام]، فقالت ابنته : يا أبت ألاّ أجيز عنك، فقال :

أو عندك ذلك ؟، قالت : بلى، قال : فافعلي : فقالت :

مقاويل للمعروف خرس عن الخنا كرام يعافون العشيرة سولها

ثم أضاف حسان بن ثابت رضيّ الله عنه بيتا وأضافت ابنته بيتا بعده"[82].

والإجازة في هذا الموضع مشتقة المعنى من الإجازة في السّقي يقال :أجاز فلانا إذا سقى له أو سقاه [83].

التّمليط :

وهو أن يقول شاعر بيتا ثم يقول الآخر بيتا آخر، أو يقول هذا شطر وهذا شطر، إلى أن تتم القصيدة، من باب التساجل والتباري مثلا، وعرف ابن رشيق التمليط بقوله:" وهو أن يتساجل الشّاعران فيضع هذا قسيما، وهذا قسيما لينظر أيّهما ينقطع قبل صاحبه، وفي الحكاية أن امرأ القيس قال للتّوأم اليشكري: إن كنت شاعرا كما تقول فملّط أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، قال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقا هبّ وهناً

فقال التّوأم :

كنار المجوس تستعر استعارا.

فقال امرؤ القيس :

أرقت له ونام أبو شريح

فقال التّوأم :

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

ولا يزالان هكذا، يضع هذا قسيما، وهذا قسيما إلى آخر الأبيات"[84]، "واشتقاق التّمليط من أحد الشّيئين، أوّلهما أن يكون من الملاطين، وهما جانبا السّنام في مرد الكتفين، قال جرير:

ظللن حوالي خدر أسماء وانتحى بأسماء موّار الملاط أروح

فكأنّ كلّ قسيم ملاط، أي جانب من البيت، وهما عند ابن السّكيت العضدان، والآخر وهو الأجود، أن يكون اشتقاقه من الملاط، وهو الطّين يدخل في البناء يملط به والحائط ملطا، أي يدخل بين اللبن حيث يصير شيئا واحدا"[85]، فيكون طينا والآخر لبنة لصنع قصيدة على شاكلة جدار.

المرافدة :

المرافدة تدخل في باب المساعدة عندما يعجز شاعر آخر لسبب أو آخر، فيعينه شاعر آخر بما يفك عقدة لسانه أو تفكيره، ويصبح ما أعانه به ملكا له، والمرافدة طرقها ابن رشيق ومثل لها وقال فيها: "وأمّا المرافدة : فأن يعين الشّاعر صاحبه بأبيات يهبها له كما قال جرير لذي الرمّة: أنشدني ما قلت لهشام المرئي فأنشده قصيدته :

بنت عيناك عن طلل بحزوى محته الريح وامتنح القطارا

فقال [جرير] :ألا أعينك ؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال: قل له :

يعدّ النّاسبون إلى تميــم بيوت المجد أربــعة كبارا

يعدون الرباب وآل سـعد وعمرا ثم حــنظلة الخيارا

ويهلك بينها المرئي لـغوا كما ألغيت في الدّية الحوارا[86]

أنواع متصلة بالسرقات الأدبية:

القزويني لما فرغ من أمر السرقات الأدبية وضع بابا سماه فيما يتص بالسرقات ووضع فيه التضمين والاقتباس، الحل، العقد، والتلميح [87]، فالقزويني شرح مفتاح العلوم للسكاكي، والسكاكي في كتابه لم يتكلم عن السرقات، وإنما الجرجاني هو الذي تكلم عن السرقات، و الشيء الغائب عن الكثير أن القزويني عنى بشرح المفتاح كتابين، كتاب المفتاح للسكاكي، وكتابا الجرجاني : دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، واللذين سماهما العلماء بالمفتاح، والجرجاني هو الذي تكلم عن الأخذ و السرقات [88]، ولم يتكلم عن التضمين والاقتباس والحل والعقد، ولا عن التلميح، وإنما أضافها القزويني بتصريح منه في هذا إذ يقول " أما بعد فهذا كتاب في علم البلاغة، وتوابعها ترجمته بالإيضاح،وجعلته على ترتيب مختصري الّذي سمّيته "تلخيص المفتاح" [...]،وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر ممّا تضمنه مفتاح العلوم،وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشّيخ عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في كتابيه "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة" [....]، فاستخرجت زبدة ذلك كلّه وهذبتها،ورتبتها حتّى استقرّ كلّ شيء منها في محله، وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكـري، ولم أجـده لغيري فجـاء بحمد الله جامعا لأشتات العلوم ..."[89]، فكانت المصطلحات السابقة مما أضافها على وجد في السرقات عند الجرجاني، وبيان تفصيلها كالتالي:

التضمين والاقتباس

عرف ابن رشيق (ت 456 هـ) التضمين بقوله : "أمّا التّضمين فهو قصدك إلى البيت من الشّعر أو القسيم فتأتي به في آخر شعرك أو في وسطه كالمتمثّل"[90]، وابن الأثير (ت 637 هـ) فإلى جانب التّضمين الحسن والّذي قصد به الاقتباس، فيسمّيه التّضمين ويعرّفه كما يلي: "التّضمين وهو أن يضمّن الشّاعر شعره والنّاثر نثره كلاما آخر لغيره قصدا للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود"[91]، والخطيب القزويني (ت 739هـ) يعرّفه بقوله: " أمّا التّضمين فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء"[92].

"كقول الحريري:

على أنّي سأنشد عند بيعي أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا

المصراع الأخير قيل هو للعرجي، وقيل لأميّة بن أبي الصلت وتمام البيت :

ليوم كريهة وسـداد ثغر"[93] -[94].

"والشّطر الثّاني قد ضمّنه النّميري الغرناطي فقال :

له شفة أضاعوا النّشر منها بلئيم حين سدّت ثغر بدري

فما اشتهى لقلبي ما أضاعوا لـيوم كريهة وسداد ثغر"[95]

"وقول ابن العميد:

وصاحب كنت مغبوطا بصحبته دهرا فغـــادرني فردا بلا سكن

هبت له ريح إقــــــبال فطــار بها نحو السّرور وألـجاني إلى الحزن

كأنّه كان مطويا على أحــــــــن ولم يكن في ضروب الشّعر أنشدني

إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الـمنزل الخشن

فالبيت [الأخير] لأبي تمّام"[96] من قصيدة قالها في أبي الحسن على بن مرّ، والبيت هذا كان آخر القصيدة [97]،وأوّلها:

أراك أكبرت إدماني على الدّمن وحملي الشّوق من جادٍ ومكتمن[98].

"وكقول ابن نباتة الخطيب المصري : أقول لمعشر جلدوا ولاطوا وباتوا عاكفين على الملاح

(ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح[99]

فالبيت الأخير لجرير، من قصيدة قالها في مدح عبد الملك بن مروان قال في أوّلها:

أتصحو بل فؤادك غير صاح عشيّة همّ صحبك بالرّواح[100]

إلى أن قال : ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح[101].

وهو على أنواع إما تضمين بيت أو أكثر أو مصراع أو ما دونه، وبالإضافة إلى التنبيه عليه أو بدون التنبيه عليه لشهرته[102]، ويجوز فيه أيضا التغيير اليسير بما يتناسب وقرائن الشعر، والمعنى أو الوزن أو القافية[103]، والتضمين من هذه الجهة ليس عيبا، فالكثير من فطاحلة الشعراء منذ الجاهلي وإلى يومنا يضمنون مشهور الشعر، على جهة التمثل وللاستشهاد، وتقوية الحجة،...

أما الاقتباس فعرّفه فخر الدّين الرّازي (ت 606 هـ) بقوله :"وهو أن تدرج كلمة من القرآن أو آية منه في الكلام تزيينا لنظامه تفخيما لشأنه"[104]، ويسمّيه ابن الأثير (ت 637 هـ) بالتّضمين الحسن فيقول :"فأمّا [التّضمين] الحسن الّذي يكتسب به الكلام طلاوة فهو أن يضمّن الآيات والأخبار النّبوية"[105]،ويعرّفه الخطيب القزويني (ت 739هـ):" [الاقتباس] فهو أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنّه منه"[106].

ومن الاقتباس من القرآن في الشعر " ممّا قال جلال الدّين السّيوطي:

أيّها السّـــائل قومـا ما لهم في الخير مذهب

اترك النّاس جميعا وإلى ربّـك فارغــب [107]

فالشّطر الأخير من البيت الثّاني مقتبس من الآية الكريمة ﭽ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﭼ [108].

ومثل قول أحد الشّعراء :

إن كنت أزمعت على هجرنا من ما جرم فصبر جميل

وإن تبدّلت بنـا غـــــــيرنـــا فحسبنا الله ونعم الوكيل [109]

فقوله " صبر جميل " مقتبس من قوله تعالى: ﭽ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭼ[110] الشّطر الأخير من البيت الثّاني مقتبس من الآية " ﭧ ﭨ ﭽ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭼ "[111]

و كمثال آخر ما قاله الشّيخ الشّهاب الحجازي الأديب:

يا أخا الرشد إذ جاءك ذو والد ليّن كن في الحال من أصحابه

أو يعاند جاحدا فـي ربّـنـا قــــــــــــــل هو الرّحمن آمــــنا به[112]

فالشّطر الأخير من البيت الثّاني مقتبس من قوله تعالى: ﭽ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭼ[113]. " وقال الأحوص:

إذا رمت عنها سلوة آل شـــافع من الحبّ مـيعاد السلوّ المقابر

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السّرائـــر[114]

فقوله في الشّطر الأخير من البيتين "يوم تبلى السّرائر" مقتبس من قوله تعالى: ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﭼ[115].

ومن الاقتباس من الحديث الشريف قال محمّد العيد آل خليفة :

هم العرب الفصاح لهم بيان مبين ليس فيه أقل وصــمة

مقيم اللسان فظلّهم بــيانا وشعرا منة منه و رحمـــة

وإنّ من البيان لنا ســحرا و إنّ من القريض لنا لحكمـة[116]

فالبيت الأخير مقتبس من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشّعر لحكما"[117]،والشّاعر أدخل تغييرات على متن الحديث ليتناسب مع الوزن واستبدل كلمة الشّعر بكلمة القريض و لهما نفس المعنى .

و " كقول الشّيخ شهاب الدّين بن أبي جعفر بن مالك الأندلسي الغرناطي:

لا تعاد النّاس في أوطانهم قلّما يرعى غريب في الوطن

وإذا ما شئت عيشا بينهم خالق النّاس بخلق حــسن[118]

اقتبس شطره الأخير من قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه:" اتّق الله حيثما كنت، واتبع السّيئة الحسنة تمحها،وخالق النّاس بخلق حسن "[119].

وكذلك من قول" الصّاحب بن عباد:

أقول وقد رأيت له سحابا من الهجران مقبلة إلـينا

وقد سحبت غواديها بهطل حوالينا الصّدود ولا علينا

فالصّاحب [بن عباد] اقتبس من قوله عليه الصّلاة والسّلام حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم "اللهم حوالينا ولا علينا"[120]-"[121].

ومن الاقتباس من القرآن الكريم في النثر كقول الحريري :" فلم يكن إلاّ كلمح البصر أو أقرب حتّى أنشد، وأغرب"[122]،فقول الحريري مقتبس من الآية الكريمة ﭧ ﭨ ﭽ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﭼ [123]، و يقول عبد المؤمن الأصفهاني: " أصدق الأرواح روحان ممتزجان، وأخلص القلوب قلبان يزدوجان يتحابون " ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ " [124]،وآخرون " ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ " [125]-[126].

ومن الاقتباس من الحديث الشريف في النثر كقول الحريري: " وكتمان الفقر زهادة، وانتظار الفرج بالصّبر عبادة وفي قوله اقتباس من لفظ الحديث الشّريف " انتظار الفرج بالصبر عبادة " "[127]-[128] .

فالتلميح والتضمين شأنهما شأن الاقتباس في أن كلاهما يحتاج من الدارس إلى حفظ القرآن والسنة وفقههما وحفظ الكثير من الأدب وشعره ونثره ومداومة القراءة والاطلاع في مختلف كتب الأدب وشتى ميادينه[129].

ونسجل هنا ملاحظة وهي: أن الاقتباس يجوز التغيير اليسير فيه بما يتناسب وقرائن الكلام أو الوزن والقافية، ولكن التغيير الكبير فيه يلحق بفن العقد وليس الاقتباس، ولا أن يقول قال الله، أو قال رب العالمين،...، أو قال الرسول، قال خير البرية، فهذا أيضا يلحق بفن العقد[130]، ولا يجوز الاقتباس في مواضع الفحش والاستهتار، والمجون، ولا يجوز اقتباس ما اختص به الله سبحانه وتعالى، وحرمه بعض العلماء شعرا وأجازوه نثرا، ووجب الاقتباس في مواطن الترهيب والترغيب، في حرم الله وأحل، وفي الوعظ والإرشاد، وبما يتناسب مع مكانة القرآن الكريم، والحديث الشريف. قال الله تعالى: ﭽ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﭼ [131].

العقد:

عرف ابن أبي الإصبع (ت654هـ) المصري العقد، وتبعه صفي الدين في تعريفه في قوله : فالعقد نظم المنثور"[132]، فالعقد هو أخذ الكلام المنثور رسالة، قول مأثور، ...، وإدخاله في ثنايا القصيدة ووزنه بأوزان الشعر و عرف الخطيب القزويني العقد بقوله "العقد هو أن ينظم نثرا لا على طريق الاقتباس"[133]، هنا الخطيب القزويني أضاف لأن العقد لا يكون عن طريق الاقتباس، لأن القرآن والحديث الشريف ليسا بشعر، ومن هنا نبه القزويني، بأنهما لا يدخلان في دائرة النثر المقصود بالعقد فيه لأن الشاعر عندما يأخذ من القرآن أو الحديث، ويضع ما أخذ في ثنايا القصيدة يكون قد اقتبس ولم يعقد فيهما، ومما يضاف هاهنا أن الشاعر إذا أخذ من القرآن أو الحديث الشريف لكن بتغيير كبير يكون قد دخل باب العقد وليس الاقتباس، ونؤكد قولنا هذا بقول التفتازاني (ت792هـ)وعبد الرحيم العباسي (ت963هـ) وهو " وهو أن ينظم الشّاعر نثرا قرآنا كان أو حديثا أو مثلا أو غير ذلك لا على طريق الاقتباس" [134]، و من قول سعد الدّين التّفتازاني أيضا إذ قال: " إن كان قرآنا أو حديثا فإنّما يكون عقدا إذا غيّر كثيرا لا يحتمل مثله الاقتباس، أو لم يغير تغييرا كبيرا، ولكن أشير إلى أنّه من القرآن أو الحديث، وحينئذ لا يكون عن طريق الاقتباس"[135]، وقال السيوطي في فن العقد : " العقد أن ينظم نثرا قرآنا أو حديثا أو مثلا أو غير ذلك لا على طريق الاقتباس بأن يقع تغيير كثير أو يشير إلى أنه من القرآن أو الحديث "[136]، وكذلك قول ابن أبي الإصبع المصري في عقد الأقوال المأثورة، والنثر عموما: " وأن يؤخذ المنثور بلفظه ومعناه، ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان من أنواع السّرقات، وإن غيّر من اللفظ شيئا [ بسبب الوزن أو القافية] بشيء فينبغي أن يكون المتبقي منه أكثر من الغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع[137]،

و عرف أسامة بن منقذ(ت584هـ) العقد إلى جانب الحلّ فقال: " اعلم أنّ الحلّ والعقد هما ما يتفاضل فيهما الشّعراء والكتاب، وهو أن يأخذ لفظا منثورا فينظمه أو شعرا فينثره، مع الاتّفاق في المعنى"[138]، وهنا شرط آخر وهو الاتفاق في المعنى فلا يحق للشاعر أن يصرف معنى ما عقد على ما دل عليه في أصله، وابن طباطبا (366 هـ) يرى بأنّ الشّعراء يسرقون الكتاب، والخطباء والبلغاء، وهؤلاء بدورهم يسرقون من الشّعراء، وكأنّها علاقة تبادل حيث يقول :"فالشّعر رسائل معقودة، والرّسائل شعر محلول، وإذا فتشت أشعار الشّعراء كلها وجدتها متناسبة إما تناسبا قريبا أو بعيدا وتجدها متناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء،وفقر الحكماء"[139]، ويقول الحاتمي(388 هـ) أيضا في هذا الباب : "ومن الشّعراء المطبوعين طائفة تخفي السّرق، وتلبسه اعتمادا على المنثور دون منظومه، واستراقا للألفاظ الموجزة، والفقر الشّريفة، والمواعظ الواقعة، والخطب البارعة"[140]، وتبعهما أبو هلال العسكري (395 هـ) في هذا عندما قال :"وأحد أسباب إخفاء السّرق أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من نثر فيورده في نظم"[141]، ويسير ابن رشيق القيرواني(456 هـ) في نفس الطريق حيث يقول: "وأجلّ السّرقات نظم النّثر وحلّ الشّعر"[142].

وعلى هذا كان العقد للنثر من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، والأمثال والحكم، والأقوال المأثورة، وما كان في النثر كالخطبة والرسائل...، كما هي في أصلها، أو بتغيير يسير ليدخل في الوزن، أو ما يلاءم القافية، وقرائن الكلام،

ويكون العقد من القرآن أو الحديث الشريف لا عن طريق الاقتباس، وإنما أن تقول في قال الله، قال رب العالمين كذا وكذا، أو ما شاكل ذلك، أو بتغيير كبير، فالتغيير اليسير لا يخرج ما فعلت من دائرة الاقتباس فالتغيير اليسير مسموح به ليتلاءم مع الوزن أو القافية ودليلنا في هذا قول ابن حجّة الحموي(ت837هـ):"ثمّ اعلم أنّه يجوز أن يغيّر لفظ المقتبس منه بزيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير،أو إبدال الظاهر من المضمر،أو غير ذلك فالزّيادة وإبدال الظّاهر من المضمر"[143] والسّيوطي (ت911هـ)عندما يعرّف الاقتباس زاد عن التّعريف قوله :" أو غيّر يسيرا للوزن فإنّ ذلك لا يضرّه"[144]. ويقول ابن يعقوب المغربي(ت1110هـ) في هذا الصدد :"ولا بأس بتغيير يسير في اللفظ المقتبس ويسمّى اللفظ مقتبسا، أما إذا غيّر كثيرا حتّى ظهر أنّه شيء آخر لم يسمّ اقتباسا [...]، والتّغيير المغتفر عند يسارته يكون إذا قصد به الاستقامة للوزن أو الاستقامة لغيره أي لغير الوزن، كاستواء القرائن في النّثر"[145].

أمثلة لفن العقد:

" قول أبي محمّد العبد لكاني:

لا تكرهنّ خلقا على مذهب لست من الإرشاد في شيء

ألم تر الرّحمن سبــحانه المخرج للميّت من الحـي

يقول لا إكراه في الدّيــن قد تبيّن الرّشد من الغـي[146]

فالشّاعر هنا اقتبس، وعقد، فاقتبس قول الله تعالى : ﭽ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭼ [147] في الشّطر الثّاني من البيت الثّاني،وعقد قوله تعالى: ﭽ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭼ [148].

و مثال على عقد الحديث الشّريف،" كما رويّ عن الشّافعي رضيّ الله عنه() :

عمدة الخير عندنا كلمــات أربع قالهنّ خير الـبريّة

اتّق الشّبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملنّ بنيّة

عقد قوله عليه السّلام " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات [ فاتّقوا الشّبهات ] "[149] وقوله عليه السّلام " ازهد في الدّنيا يحبّك الله [ وازهد في ما عند النّاس يحبّك النّاس]"[150] وقوله عليه السّلام " من حسن إسلام المرء تركه ما لايــعنيه "[151]، وقــوله عليه السّلام " إنّــما الأعمال بالنيّات [ ولـكلّ امرئ ما نوى] "[152]" -[153] -.

وعقد الشّافعي أربعة أحاديث على جهة قال الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّه قال في البيت الأوّل " أربع قالهنّ خير البريّة" وهي كناية عن موصوف وهو الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.

وكمثال على عقد القرآن بتغيير كثير" قول ابن النّبيه في الملك الصّالح:

دمياط طورا ونار الحرب مؤسّسة وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

فأطرح عصاك تلقف كلّ ماصنعوا ولا تخف من حبال القوم حيّات [154]

فلقد عقد الشّاعر هنا بعض آي القرآن ليس بالإشارة إلى أن الله هو القائل، ولكن بتغيير كثير لقوله: ﭽ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﭼ "[155].

وكمثال على عقد الأقوال المأثورة "قول أبي العتاهية:

ما بال من أوّله نطفة وجيفة آخره يفخر

فإنّه عمد إلى قول علي بن أبي طالب عليه السّلام :" ما ابن آدم والفخر،وإنّما أوّله نطفة وآخره جيفة[156]، لايرزق نفسه، ولا يدفع حتفه"[157].

" وقول الآخر:

يا صاحب البغيّ إنّ للبغيّ مصرعه فارجع فخير فعال المرء أعد له

فلو بغى جبل يوما علـــى جبل لأنــّـــدك منه أعـــاليه أسفله

عقد قول ابن عباس رضيّ الله عنهما: " لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي..." [158]

[ أو] كما فعل أبو تمّام في كلام عزّى به عليّ رضي الله عنه الأشعت بن قيس وهو: " إن صبرت صبر الأكارم، وإن سلوت سلوّ البهائم" فقال:

وقال عليّ في التّعازي للأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر في البلوى عزاء وحسبة فتـوجر أم تسلو سلوّ البهائم[159]

وكمثال على عقد الأقوال المأثورة والأمثال.

قال محمّد العيد بمناسبة اختتام السّنة الدّراسية بالمعهد الإسلامي بباتنة سنة 1965:

قال إنّه تقدّم فكر قلــت مرعى ولــيس كالسـّـعدان

لست ما عشت لتقدّم ضدّا غير أنّي على الحمى غير جاني[160]

فعقد الشّاعر المثل القائل "مرعى ولا كالسّعدان"، وهو لامرأة [قد تكون أم جندب] تزوّجها امرؤ القيس بن حجر، وكان مفركا فجعلت المرأة تعرض عنه،فقال لها يوما :أين أنا من زوجك الأوّل؟، فقالت مرعى ولا كالسّعدان، أي أنت رضا ولا كهو، والسّعدان شوك إذا أكلته الإبل غزرت عليه أكثر مما تغزر على غيره من المرعى[161].

و " كقول الرّشيد " لو جمد الخمر لكان ذهبا أو ذاب الذّهب فكان خمرا "، فنظمه غيره فقال:

وزنّا لها ذهبا جامدا فكانت لنا ذهبا سائلا[162].

[ أو] كما فعل أبو تمّام في كلام عزّى به عليّ رضي الله عنه الأشعت بن قيس وهو: " إن صبرت صبر الأكارم وإن سلوت سلوّ البهائم" فقال:

وقال عليّ في التّعازي للأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم

أتصبر في البلوى عزاء وحسبة فتـوجر أم تسلو سلوّ البهائم[163]

البس جديدك إني لابس خلقي ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا

عقد المثل " لاجديد لمن خلق له " قالته عائشة رضي الله عنها، وقد وهبت مالا كثيرا ثمّ أمرت بثوب لها أن يرقع، يضرب في الحثّ على استصلاح المال"[164].

الحلّ

قال السيوطي في فن الحل :" الحل ضد العقد فهو نثر النظم "[165]، وعرف أسامة بن منقذ فن الحل إلى جانب العقد فقال: " اعلم أنّ الحلّ والعقد هما ما يتفاضل فيهما الشّعراء والكتاب، وهو أن يأخذ لفظا منثورا فينظمه أو شعرا فينثره "[166]، وعرفه ابن أبي الإصبع المصري بقوله : "وهو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحلّ منه عقدة الوزن فيصيّره منثوراً"[167]، وعرفه القزويني بما نصه : " وأما الحل فهو أن ينثر نظما، وشرط كونه مقبولا شيئان أحدهما أن يكون سبكه مختارا لا يتقاصر عن سبك أصله، والثاني أن يكون حسن الموقع مستقرا في محله غير قلق "[168]، وزاد ابن يعقوب المغربي على هذين الشّرطين شرطا ثالثا إذ يقول: " وليس من شرطه أن يستعمله في نفس معناه، بل لو نقله من هجو إلى مدح مثلا مع كونه مطابقا قبل، فالمستكمل للشّرطين" [169].

وكمثال عن الحل " قال آخر : العيادة سنة مأجورة، ومكرمة مأثورة، ومع هذا فنحن المرضى، ونحن العواد، وكل وداد لا يدوم على ذلك فليس بوداد، حل قول القائل :

إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم نعتذر"[170]

وأيضا" كقول بعض المغاربة :" فإنّه لما قبحت فعلاته، وحنظلت نخلاته، لم يزل سوء الظنّ يقتاده، ويصدق توهمه الّذي يعتاده".

حلّ قول أبي الطّيّب [ المتنبّي]:

إذا ساء فعل المرء ساءت ضنونه وصدق ما يعتاده من قومهم"[171]

" وكقول بعض كتاب العصر في وصف السّيف: أورثه عشق الرّقاب نحولا، فبكى مطرا تزيد الخدود محولا[172]

حلّ قول أبي الطّيّب [ المتنبّي ]:

في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا مطر تزيد به الخدود محولا[173]

وكذلك يمكن حلّ بيتين في قول واحد ومنه، قول الصّاحب بن عباد فقال: " ولما أتاح الله للدّنيا ابن بجدتها، وأبا بانيها وأخا عذرتها جعل معقلهم ثمرة الحوادث، وفرصة البوائق ومجرّ العوالي ومجرى السّوابق " فإنه حل بيتين للمتنبي وهما :

تذكرت ما بين العذيب وبارق مجرّ عوالينا مجرى السّوابق

وقال في قصيدة أخرى

حتّى أتى الدّنيا ابن بجدتها فشكا إليه السـّــهل والجبل[174]

أو " كما روي عن إبراهيم بن العباس الصّولي أنّه قال: " ما اتكلت قط في مكاتبتي إلاّ على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري إلاّ قولي " فأبدلوه آجالا من آمال " فإنّي حللت قول مسلم بن الوليد:

هوف على مهج في يوم ذي رهج كأنّه أجل سعى إلى أمل[175]

التلميح

هو أحد الفنون البلاغية ومن المحسنات اللفظية البديعية، عرفه كثير من العلماء، فابن رشيق القيرواني يجمله مع التضمين عندما قال : "من التضمين ما يحيل الشاعر فيه إحالة، ويشير به إشارة كأنه نظم الأخبار أو شبيه به"[176]، وجاء في كتاب نهاية الإيجاز للرازي ما نصه :"التلميح وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو شعر نادر أو قصة مشهورة" [177] وذكره ابن أبي الإصبع المصري في باب حسن التضمين فقال :" حسن التضمين وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت أو آية أو معنى مجردا من كلام أو مثل سائر أو جملة مفيدة أو فقرة من حكمة" [178].

وعرفه القزويني بقوله:" التلميح هو أن يشار إلى قصة أو شعر من غير ذكره"[179]، وقال فيه التفتازاني:" التلميح (فهو: أن يشار) في فحوى الكلام (إلى قصة أو شعر) أو مثل سائر (من غير ذكره) أي ذكر تلك القصة أو الشعر أو المثل فالضمير لواحد من القصة أو الشعر أو المثل أي ذكر تلك القصة أو الشعر أو المثل فالضمير لواحــد من القصة أو الشعر أو المثل "[180]، النويري ضمه للتضمين حين قال : " أما التلميح وهو من التضمين وإنما بعضهم أفرده فهو يشير في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو بيت مشهور أو قضية معروفة من غير أن يذكره الشاعر"[181].

التفتازاني يرى بأن "أقسام التلميح ستة : لأنه إما أن يكون في النظم أو في النثر، وعلى التقديرين فإما أن يكون إشارة إلى قصة أو شعر أو مثل" [182]، وأغفل إمكانية التلميح للآية أو سورة قرآنية، أو إلى حديث شريف، واستدرك ابن معصوم المدني( ت1119هـ) هذا، وجعل التلميح على أربعة أقسام وهي: فصل ما لمح فيه إلى آية قرآنية، فصل في ما لمح فيه إلى حديث شريف، فصل في ما لمح فيه إلى مثل، وفصل ما لمح فيه إلى شعر مشهور[183]، وابن معصوم أغفل إمكانية التلميح إلى قصص وأخبار سالفة، غير أن أنواع التلميح أكبر من هذا، خاصة مع التطورات الحاصلة في شتى المجالات، فيمكن أن يلمح إلى، كتاب معين، مسرحية، رواية، لوحة فنية، أعمال فاضلة لعلم من الأعلام، مفكر، شاعر،...، قصيدة كاملة، وليس بيت شعر فقط، سورة كاملة، وليس إلى آية فقط، فمصادر التلميح متعددة

أما في النظم فالتلميح إلى قصة" (كقوله) أي قول أبي تمّام :

لحقنا بأخراهم وقد حـوم الهوى قلوبا عهدنا طــيرها وهي وقع

فردت علينا الشمس والليل راغم بشـمس لهم من جانب الحذر تطلع

نضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوى لبهجـتها ثـوب الســــــــــماء المجزع

فوالله ما أدري أأحلام نـــــــــــــــــــــائم ألمت بنا أو كـان في الركب يوشع

فإنه يروى أن نبي الله يوشع عليه السلام قاتل الجبارين يوم الجمعة فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب الشمس قيل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم فيه فدعا الله تعالى فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم"[184].،"وذكر أنّ يوشع عليه السّلام قطع نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا فحاصرها ستة أشهر، ثمّ دخلها وجنده، فقتلوا اثني عشر ألفا، و ذكر أنّه انتهى من محاصرته يوم الجمعة بعد العصر، فلما غربت الشّمس أو كادت تغرب، و يدخل عليهم السّبت فخاف أن يدخل السّبت فلا يحلّ له القتال فيه، فقال يوشع: "إنّك مأمورة،وأنا مأمور اللهمّ احبسها عليّ"،فحبسها الله عليه حتّى تمكن من فتح البلد" [185]،"وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:إنّ الشّمس لم تحبس لبشر إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس"[186].

والتلميح إلى الشعر :" كقول [ أبي تمام]

لعمروا مع الرمضاء والنار تلتظي أرق وأحفى منك في ساعة الكرب.

أشار إلى البيت المشهور

المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار

[وفي بعض المصادر المستغيث في مكان المستجير]، وعمرو هو جساس بن مرة قاتل كليب في قصة البسوس، فبعد أن قتل كليب ناقة البسوس، توعد جساس كليبا بالقتل، فلما كان له ذلك وقف عليه فقال له كليبي : يا عمرو أغثني بشره ماء فأجهز عليه فقيل البيت : المستجير بعمر، ونشبت حرب بين بكر وتغلب عمّرت أربعون سنة" .[187]

أما في النثر فالتلميح إلى قصة وإلى الشعر كقول الحريري فبت بليلة نابغية وأحزان يعقوبية أشار إلى قول النابغة :

فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع

وأشار إلى قصة يعقوب عليه السلام وما كان له من الحزن إزاء فقدان ابنه يوسف عليه السلام.

" وما حكي عن الأصمعي قال اعتللت فدخل علي الرشيد فقال كيف بت فقال بليل النابغة فقال لعلك تعني قوله

فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم الناقع[188]

وأضاف التفتازاني ضربا آخر للتلميح فقال :" ومن التلميح ضرب يشبه اللغز كما روي أن تميميا قال لشريك النميري : ما في الجوارح أحب إلى من البازي قال النميري : وخاصة إذا يصيد القطا، أشار التميمي إلى قول جرير.

أنا الباز المطل على نمير أتيح من السماء لها انصبابا

وأشار شريك إلى قول الطرماح :

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت "[189].

ومن طريف التلميح في هذا الباب ما "حكي أن الحيص بيص حضر ليلة عند العزيز في شهر رمضان على السماط فأخذ أبو القاسم بن القطان قطاة مشوية وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير يا مولانا هذا الرجل يؤذيني فقال الوزير وكيف ذلك، قال إنه يشير إلى قول الشاعر :

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلت"[190]

"وروي أن رجلا من بني محارب دخل على عبد الله بن يزيد الهلالي فقال عبد الله ماذا لقنا البارحة من شيوخ محارب ما تركونا ننام، وأراد قول الأخطل :

تكش بلا شيء شيوخ محارب وما خلتها كانت تريش ولا تبري

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت فدل عليها صوتها حية البحر

فقال : أصلحك الله تعالى أضلوا البارحة برقعا وكانوا في طلبه، أراد قول القائل :

لكل هلالي من اللؤم برقع ولابن يزيد برقع وجلال"[191].

ومن التلميح لآية قرآنية نورد هذا المثال: " قول أبي نصر محمد الأصفهاني في ذم مملوك له:

بليت بمملوك إذا ما بعثته لأمر أعيرت رجله مشية النمل

بليد كأن الله خالقنا عـنى به المثل المضروب في سورة النحل

يشير إلى قول الله تعالى: ﭽﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﭼ[192] –"[193].

العنوان :

فن العنوان لم يورده القزويني في ضمن الفنون التي تتصل بالسرقات الأدبية، وأوردناه نحن زيادة من عندنا حتى نقرنه بفن التلميح لأنهما اسمان لفن واحد، من العلماء الذين تطرقوا لفن العنوان نجد ابن أبي الإصبع المصري، صفي الين الحلي(ت750هـ)، ابن حجة الحموي،والسيوطي، وعبد الرحيم العباسي وعرفوه اتفاقا بينهم بأن العنوان "وهو أن يأخذ المتكلّم في غرض له من وصف،أو فخر،أو مدح،أو هجاء،أو عتاب،أو غير ذلك ثمّ تأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا للأخبار متقدّمة، أو قصص سالفة "[194].

"كقول أبي تمّام لأحمد بن أبي داود:

تثبت أن قولا كــان زورا أتى النّعمــان قبلك في زياد

فأرث بين حيّ بنــي جلاح لظـى حرب وحيّ بني مصاد

وغادر في صدور الدّهر قتلى بني بدر علــى ذات الآصاد

فالعنوان هاهنا يشير إلى ما كان بين النابغة الذبياني والنعمان بن المنذر في الجاهلية عندما تعرض النابغة لزوج النعمان المتجردة وما جر ذلك من حروب من أيام العرب [195]، وفي البيت الثالث كان هناك عنوان لما كان بين بني عبس وبين بني بدر عند غدير ذات آصاد[196].

هنا لو قدمنا هذا المثال إلى أحدنا بعد أن يكون قد اطلع على تعاريف التلميح وأمثلته، سيقول مباشرة بأن مثال جيد للتلميح، ولو قابلنا أمثلة التلميح مع مثال العنوان لقلنا القول نفسه، ولا أحد تطرق إلى الفروق بينهما إلا ما قاله الحلي حين قال بناء على قاله ابن أبي الإصبع المصري في ما نصه : "الفرق بين التّلميح والعنوان على ما ذكره ابن أبي الإصبع في نوع حسن التّضمين،وهو التّلميح بعينه أنّ التّلميح يقع من النّثر خاصّة في النّظم حين قال :" التّضمين يقع في النّظم والنّثر، ولا يكون إلاّ بالنّثر [...] أمّا العنوان فإنّه يقع في النّظم والنّثر، ولا يقع بالنّثر "[197] "أي يقع بالنّظم"[198]، وعلى هذا يكون:

- التضمين ما أخذ من النثر، وأدرج في الشعر والنثر.

- العنوان ما أخذ من الشعر وكان في الشعر والنثر.

وهنا تتداخل المصطلحات البلاغية، فالعقد يصبح تضمينا، والحل والتضمين يصبحان عنوانا، ومرد هذا هو أن أبي الإصبع المصري، عرف التضمين والاقتباس والحل والعقد والتلميح تعريفا واحدا جامعا، سماه حسن التضمين حين قال: " حسن التضمين وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت أو آية أو معنى مجردا من كلام أو مثل سائر أو جملة مفيدة أو فقرة من حكمة " [199]، ولم يفصل بينها، وأول من ذكرها منفصلة عن بعضها هو الخطيب القزويني وتبعه الشراح بعد ذلك، وما رأيناه بأن بعض العلماء يدخلون التلميح في باب التضمين، وتعريف ابن أبي الإصبع المصري والذي كان جامعا للتضمين والاقتباس والحل والتلميح والعقد، انطلقوا من باب التعريف اللغوي للتضمين، فهو: "ضمن، الضاء والميم والنون أصل صحيح،وهو جعل الشّيء في شيء يحويه من ذلك قولهم :ضمّنت [الشّيء] إذا جعلته في وعائه "[200] وعلى هذا تدخل فيه كل المصطلحات السابقة، لأن التضمين والاقتباس والحل والعقد والتلميح، كل هذه مصطلحات تدل على أن هناك نص في نص آخر يحويه، وهي لا تخرج من باب وضع الشيء في شيء آخر يحويه، ولكن في ما بعد عرف كل مصطلح باسمه، وهنا وجب التفريق بينهما، وابن أبي الإصبع عندما قدم هذا التعريف الجامع خص نوعا باسم العنوان[201]، وبعده جاء العلماء وفصلوا المصطلحات المجملة في التعريف السابق، فوضعوا التضمين والاقتباس، والحل، والعقد، والتلميح، ولم يحذفوا اسم العنوان، فبقيا اسمان أو مصطلحان لفن واحد.

كذلك أن العلماء لما يذكرون التلميح لا يذكرون العنوان، ومن العلماء الذين ذكروهما معا هم صفي الدين الحلي، وابن حجة الحموي، لإدراك العلماء بأنهما فن واحد، كذلك أن الأمثلة المقدمة في كليهما هي متطابقة، ويمكن أن تسحب على بعضها البعض، ويقول السيوطي :" ثم نبهت من زيادتي على نوع آخر يسمى العنوان وهو شبيه بالتلميح "[202]، أولا بالرغم من أن علماء سبقوه ذكروا العنوان، وهو يقول من زيادتي، وثانيا هو يقر بأن شبيه بالتلميح، وعلى هذا فمجمل القول هاهنا هو أن العنوان والتلميح متطابقان، أو أن اسم العنوان كان ممهدا لاسم التلميح فيما بعد.

وبعد أن فرغنا من المصطلحات التي وضعها القزويني في ما اتصل بالسرقات الأدبية، نجد بأن هذه الأنواع هي متصلة بالسرقات الأدبية لتشابه منهجها مع منهج الأخذ، فالقزويني لم يعد التضمين والاقتباس والتلميح، والحل, العقد، من السرقات لكن قال فيها ما اتصل بالسرقات، لأن هذه الفنون تشترك مع السرقات في الأخذ فقط، فهذه الفنون والأنواع الأخرى للسرقات كلها تصب في أخذ نص من نص آخر، أما عن غائية الاستعمال، فهذه الفنون يكون استعمالها للتأكيد، والاستشهاد، والتمثل، والبرهان والحجة، ...، عكس أنواع السرقات الأخرى والتي يكون من ورائها ادعاء الامتلاك،وهذه الفنون أبين من السرقة، وهذا ما جعل القزويني يدرجها في باب ما اتصل بالسرقات.

ومما يضاف إلى هذا أن النقاد القدامى يستعملون لفظ السرقة ليس من معيار أخلاقي أي أنه لا يجوز، وإنما من معيار نقدي، أي أن الآخذ يشبه عمله عمل السارق في الأخذ، ومن ثمة فهناك السرقة المحمودة والسرقة المذمومة، ويقول في هذا بدوي طبانة: " فهم يسمون هذا العمل سرقة، وسرقا وانتهابا وإغارة وغصبا ومسخا إلى كثير من تلك الألقاب أو الأوصاف التي تشين صاحبها، والرفقاء منهم يتلطفون في تلك الألقاب تحرزا من الخطأ وإحسانا بالظن فيسمونه اقتباسا وأخذا وتضــمينا واستشهادا وعقدا أو حلا وتلميحا، وغير ذلك من الأسماء الرقيقة المهذبة" [203]، وما يمكن أن نعقب به على الكلام هو أن فنون التضمين والاقتباس، الحل، العقد، التلميح لا تنتمي لا إلى السرقة المحمودة ( الأسماء المهذبة )، ولا إلى السرقة المذمومة ( الأسماء المشينة )، لأن الشاعر أو الناثر يشير إلى مصدرها عند التلميح أو عقد القرآن أو الحديث الشريف، أو أنه يضمن أو يحل أو يعقد أو يلمح لما هو مشهور، أو يضمن أو يقتبس، وهو شرط العلماء في ذلك، فما الذي يجعل التلميح يدخل باب هذه أو تلك، فإشارة المتكلم إلى مصدر وأصل القصة أو المثل أو البيت الشعري، صار في مكان آمن من كلمة سرقة بنوعيها فهو لم يدع التملك لها، بل هو يعزوها إلى موردها ومضربها، ومصدرها.

كما أن القول في الاقتباس والتضمين والحل والعقد بأن الرفقاء يتلطفون في تلك الألقاب تحرزا من الخطأ وإحسانا بالظن، يجعلنا نفهم أن المقتبس والمضمن والملمح سارق، ونحن نحسن بهم الظن، لكيلا نقع في الخطأ غير أن التضمين ولاقتباس والتلميح ...، أبعد من التحرز فيها بالخطأ وإحسان الظن في أصحابها، وهم يستعملون هذه الفنون لاستشهاد، والتمثل، وتقوية المعنى، وكحجة ودليل...، ووضعها القزويني في ما اتصل بالسرقات لاشتراكها مع السرقات الأخرى في طريقة الأخذ فقط، وأصحاب هذه الفنون في مأمن في اتهامهم بالسرقة لهذه الأسباب التالية:

أولا التضمين : من هذا الذي يدعي في تضمين بيت شهير لامرئ القيس أو زهير...، أنه ملكه وصاحبه، مع أن العلماء وضعوا شرط التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا قال الخطيب القزويني: (ت 739هـ) يعرّفه بقوله: " أمّا التّضمين فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء"[204]، وهنا إن كان البيت شهيرا فالسرقة بعيدة عن المضمن، لأن صاحبه معروف، وغن لم شهيرا ونبه عليه وفق شرط العلماء فهو لم يدعيه لنفسه لأنه نبه عليه.

ثانيا الاقتباس : هنا أيضا من الذي يدعي أنه سبق القرآن الكريم بمعنى أو تركيب لغوي أو أسلوبي حتى، لأنّ الله تعالى يقول ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭼ "[205]، ويقول الله تعالى ﭽ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭼ[206]، وكذلك كل الأحاديث النبوية معروفة، ومحفوظة من قبل الناس عند جلهم، وحتى العلماء لم يضعوا شرطا للاقتباس لهذه الأسباب، وعند هذا فالمقتبس تنتفي عنه السرقة .

ثالثا العقد : أما فن العقد فيكون بعقد القرآن الكريم أو الحديث الشريف إما بالتغيير الكبير، أو عن طريق قال الله رب العالمين كذا وكذا، أو قال خير البرية كذا وكذا ...، ويكون أيضا في عقد الأقوال والأمثال السائرة المعروفة، وهنا فأين السرقة في هذا، ومن سيدعي القول بأن القول المأثور الفلاني ملكه، كما أن العلماء وضعوا شروطا للعقد حتى لا يلتحق بالسرقة وهي :" أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه فيزيد فيه أو ينقص منه أو يحرّف بعض كلماته ليدخل به في وزن من أوزان الشّعر"[207]،" مع الاتّفاق في المعنى "[208]، وأن يؤخذ المنثور بلفظه، ومعناه ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان من أنواع السّرقات، وإن غيّر من اللفظ شيئا [ بسبب الوزن] بشيء فينبغي أن يكون المتبقي منه أكثر من الغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع[209]، وعلى هذا فالسرقة منتفية عن العقد حتى يخل بهذه الشروط.

رابعا الحل : فالحل أخذ الشعر وفك عقدة الوزن عنه حتى يصير نثرا ووضع له العلماء شرطين حتى لا يلحق بباب السرقة وهما : أولا:" سبكه مختارا لا يتقاصر عن سبك أصله، ثانيا: أنّ يكون حسن الموقع مستقرا في محلّه غير قلق"[210]، فالشرط هو ما يهمنا لأن العلماء يؤكدون بأن يبقى السبك على أصله ليعرف صاحبه، ولا يمكن حين إذ الادعاء بالملكية، وهو شرط فاصل بين الحل والسرقة متى لم يتوفر فالسرقة بينة، وإن كان بشروطه فهو ليس بسرقة.

أما التلميح فلم يضع العلماء له شروط لأنه أبين من السرقة لأن الملح يشير إلى مصدر ما لمح، ويعزو إليه في كلامه، فهو أبعد كل البعد عن السرقة بل إنه الفن الوحيد الذي يشير فيه صاحبه إلى مصدر ما يلمح إليه، و كذلك التضمين إن لم يكن الشعر معروفا، ,إن أمر التلميح وبعده عن السرقة لا يحتاج إلى دليل أكثر من هذا، العلماء المتقدمون لم يضعوا شرطا واحدا للتلميح عكس الفنون الأخرى، لأن الملح أصلا يشير للمصادر المتعددة لما يملح، قال بدوي طبانة في هذا : "وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ، وسارق المعاني، ولا من يخترعها، ولا من لم يلم بها ولا من يجاهر بالأخذ ممن يكاتم به، ولا من يخترع الكلام اختراعا " [211]، والتلميح يجاهر بالأخذ، ولا يكاتم فيه.

وما يمكن قوله هنا هو أن علاقة الملمح و ما يلمح إليه ليست علاقة سرقة أدبية لما قلنا سابقا، لكن يمكن أن تكون هناك سرقة بين الشعراء والناثرين في طريقة التلميح نفسها، أو التضمين، أو الاقتباس أو الحل أو العقد، ونقدم هذا المثال، " قال الرصافي البلنسي يخاطب بعض من اسمه موسى بأبيات شعرية بها تلميح :

فأبلل بها رمق الغبوق فقد أتى من دون قرص الشمس ما يتوقع

سقطت ولم يملك نديمك ردها فوددت يا موسى لو أنك يوشع

وقد قال ابن مرج الكحل فيما ينحو هذا المنحى وأشار إلى قصة الرصافي في هذه :

فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل فوددت يا موسى لو أنك يوشع "[212]

والملاحظ بين بيتي الرصافي النابلسي، وابن مرج الكحل، أن بهما تلميح لقصة النبي يوشع عليه السلام، مع تطابق كلي معنى ولفظا، وهو ما يعتبر سرقة بأدبية من جهة سرقة في اللفظ والمعنى ينهما، والتلميح إلى قصة النبي يوشع عليه السلام "فإنه يروى أن نبي الله يوشع عليه السلام قاتل الجبارين يوم الجمعة فلما أدبرت الشمس خاف أن تغيب الشمس قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم فيه فدعا الله تعالى فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم"[213]. "وذكر أنّ يوشع عليه السّلام قطع نهر الأردن، وانتهى إلى أريحا فحاصرها ستة أشهر، ثمّ دخلها وجنده، فقتلوا اثني عشر ألفا، وذكر أنّه انتهى من محاصرته يوم الجمعة بعد العصر، فلما غربت الشّمس أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السّبت فخاف أن يدخل السّبت فلا يحلّ له القتال فيه، فقال يوشع: "إنّك مأمورة، وأنا مأمور اللهمّ احبسها عليّ"، فحبسها الله عليه حتّى تمكن من فتح البلد"[214]، "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الشّمس لم تحبس لبشر إلاّ ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس"[215].

وكذلك " كقول بعضهم :

ما في الصحاب وقد سارت حمولهم إلا محـب له في الركب محبوب

كأنما يـــوسف في كــــــــــــل رحلة والحي في كل بيت منه يعقوب

يشير إلى ما قصه سبحانه في القرآن العظيم من أمر يوسف وحرص وحزن يعقوب عليهما السلام [216]

وقال المدني[ على منوال ما سبق ] :

لله من واله عان بأســــــــــــــــــــــــرته مــحب غدا يبككيه من محبوب

كأنه يوسف في السجن مضطهدا وكل ذي خلة في الحي يعقوب [217]

فابن معصوم المدني نسج تلميحا لقصة النبي يوسف والنبي يعقوب، بشكل يوحي بان الأمر له علاقة بالسرقة الأدبية لاقتراب الأسلوبين كثيرا من بعضهما البعض، وهو واضح في البيتين، وما كان من أمر الأمثلة السابقة للتلميح قد يحدث في التضمين والاقتباس الحل، العقد، فقد تكون هناك سرقات في استخدام نفس الأساليب أو نفس الألفاظ والمعاني بين الشعراء والمتكلمين.

السرقات الأدبية في النقد الحديث

السرقات في الفكر النقدي الحديث تهتم بالكليات، فالنقاد الغربيون لا ينظرون إلا في السرقات من الجانب الكلي أي النص بكامله أو بتحوير طفيف، عكس النقاد العرب المتقدمين، والذين يهتمون بالجزئيات، وينظرون حتى في معنى بسيط جدا ويعدونه سرقة [218]، غير أن هذا الرأي عار من الصحة فالنقاد المتقدمون طرقوا باب السرقات في شكلها الكلي، مثلما تطرق ابن سلام الجمحي إلى قضية الانتحال في كتابه " طبقات فحول الشعراء "[219]، وعلى شاكلة هذا الكثير من الأقوال والكتب والفصول في تراثنا العربي الثري، وإن كنا نقر بأن السرقات الأدبية عند المتقدمين العرب ركز في جلها حول السرقات الجزئية لندرة وقلة السرقات في جانبها الكلي، وفي عصرنا هذا أصبحت السرقات على مستوى المعاني والجمل لا تكاد تأخذ حيزا كبيرا في الفكر النقدي، اللهم ما ندر على مستوى التناص، والذي أصبح يدرج ضمن الوظائف الجمالية لا السرقات الأدبية، ويقول محمد مندور: "وأخيرا هناك السّرقات، وهذه لا تطلق اليوم إلاّ على آخذ جمل أو أفكار أصلية، وانتحالها بنصّها دون الإشارة إلى مأخذها، وهذا قليل الحدوث في العصر الحديث، وبخاصّة في البلاد المستنيرة "[220]، فالنقد الحديث لا يولي أهمية لسرقة تتم على مستوى الجزئيات، والاهتمام البالغ هو حول السرقة المجملة، وإن كنا نجد في النقد التناص اهتماما ببعض الجزئيات، ولكنها لا تنزل إلى مانزل إليه النقد القديم إلى أبسط المعاني.

ونجد محمد مندور يضع حدودا للسّرقة لكنّها أقل مما قلناه عند العلماء المتقدمين، ويصنفها إلى (استيحاء، استعارة الهياكل، التّأثر، السّرقة)

- "الاستيحاء: وهو أن يأتي الشّاعر،أو الكاتب بمعان جديدة تستدعيها مطالعاته فيما كتب الغير.

- استعارة الهياكل: كأن يأخذ الشّاعر أو الكاتب موضوع قصيدة، أو قصّة من أسطورة شعبية،أو خبر تاريخي،ويبعث فيها الحياة في هذا الهيكل حتّى ليكاد يخلقه من العدم.

- التّأثّر: وهو أن يأخذ شاعر، أو كاتب بمذهب غيره في الفنّ، والأسلوب، ولقد يكون هذا التّأثّر تتلمذا، كما قد يكون عن غير وعي، إنّما النّقد هو الذي يكشف عنه.

- وأخيرا هناك السّرقات، وهذه لا تطلق اليوم إلاّ على آخذ جمل أو أفكار أصلية، وانتحالها بنصّها دون الإشارة إلى مأخذها، وهذا قليل الحدوث في العصر الحديث،وبخاصّة في البلاد المستنيرة"[221].

فالسّرقة في النّقد العربيّ القديم كانت في أخذ الألفاظ، والمعاني حتّى وإن حورت قليلا أو كثيرا، أو أخذ المعنى بلفظه، أما في عصرنا هذا فحسب محمد مندور، وهو ما نراه أنّ السّرقة أصبحت لا تسمّى سرقة أدبيّة إلاّ بأخذ العمل كلّه، أو تحويره قليلا من قبيل الانتحال والسّرقة لا على طريق الاقتباس المشروع، والّذي يدلّ على صاحبه،ويستأذن منه في ذلك.

أما محمد مفتاح فإنّه يضع مفاهيم (التّطابق، التّحاذي، التّداخل، التّفاعل، القلب)،كمفاهيم ذات وظائف جمالية وإيديولوجية، وهي ستتركنا نعتبر أنّ ما استند إليه الشّاعر ليست نقولا مبعثرة هلهلت نسيج الكتاب، وهي تبرير لهذا[222].

1- "التّطابق: نعني به تطابق نصّ مع نصّ آخر شكلا، ومضمونا".[223]

2- "التّحاذي: [ومعنى هذا أنّ النّصوص السّابقة تكون] متحاذية مع نصّ الشّاعر،أو نصّ غيره،وقد تكون في البداية، أو الوسط،أو النّهاية، ومقياسه هو أنّ النّصّ الّذي جيء به ليحاذي غيره يحافظ عليه كما هو في أصله بدون تبديل أو تغيير أو تحويل أو حذف"[224] .

3- "التّداخل: ونعني به تداخل نصوص الآخرين مع نصوص الشّاعر مع تغييرها، وتبديلها، وتحويلها،والحذف منها، وقد تحتل فضاء معيّنا في النّصّ،وقد تكون مثبتة في فضائه كلّه"[225].

4- "التّفاعل: هذا النّوع من التّداخل إلى أقصى صوّره إلى تفاعل النّصوص بدمج بعضها في بعض حتّى تستحيل تلك النّصوص إلى نصّ واحد متماسك متّسق، ونستطيع أن ندرج هذا التّفاعل إلى درجتين على الأقلّ:

- أوّلهما تفاعل مزدوج: ونعني به تفاعل الشّاعر مع كاتب آخر حتّى يصيرا كأنّهما واحد.

- ثانيهما تفاعل متعدّد: أي تفاعل نصوص الشّاعر مع النّصوص المتعلقة بموضوعة الحب"[226] أي كلّ النّصوص التي لها علاقة بالحبّ على تعدّد قائليها.

5- "القلب: الرّسام أو الشّاعر في كتاب الحبّ هدفا إلى تبليغ رسالة تصوّر وضعا مقلوبا فيتبين هذا الوضع المقلوب بالمقارنة بين الرّسمين الأوّل والأخير،والقصائد الأولى والقصيدة الأخيرة إنّها رسالة عن انقلاب،وتبدّل الأحوال"[227].

ويشير محمد مفتاح إلى أنّ المفاهيم (التّطابق، التّحاذي، التّداخل، التّفاعل) لو اعتمد عليها الشّاعر لكانت رسالة عملها محدودة القيمة، ولتماثل عملها مع الأعمال القديمة، والحديثة، ويعطي أهمية لعملية القلب[228]،وما نعقب به على القول الأخير القائل بأنّ القلب له أهمية أكثر من التّطابق، والتّحاذي، والتّفاعل، والتّداخل، فمحمد مفتاح أهمل جانبا مهمّا، وهو أنّ الشّاعر إذا عمل بمفهوم القلب، وتبعه كلّ الشّعراء بهذا المفهوم، فإن أعمالهم تقع متطابقة،فمثلا الجيل الأول قال معنى، الجيل الثاني يقلبه، الجيل الثالث يقلب معنى الجيل الثاني، وهنا يتطبق معنى الجيل الثالث والجيل الأول وهكذا دواليك، وما قلناه عن الأجيال يقال عن الكتاب في عصر واحد أو أعصر متباعدة، أمر آخر هنا وجب ذكره وهو أنه وفق مبدأ محمد مفتاح الكتاب والشعراء سيقلبون معنى واحدا، أو غيره، فستتطابق حتما هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ القلب لمفهوم سيقع في تطابق مع نصّ أو نصوص هي عكس النّصّ المقلوب الأصلي، وهو ما سيجعل التّطابق بالقلب إن صّح التعبير عملية دورية قد يكون طول موجتها جيل أو أقل، وهذا بالتّعبير الرياضي والفزيائي، وندرج ما قاله محمد مفتاح في خانة التّبرير عند الأخذ لا أكثر، وتطابق النّصوص والتّعابير.

وما قاله محمد مندور، ومحمد مفتاح في تقسيمات السرقات الأدبية لا يخرج لما قاله النقاد المتقدمون العرب، بل هو وجه من أوجه اختصارها فقط، ويمكن للقارئ المقارنة بينها وبين ما أوردنا من تقسيمات عند النقاد المتقدمين.

وفي عصرنا الحالي أصبح السّارق الأدبيّ لا يختلف عن سارق الذّهب والمال، وقد يعاقب بغرامة أو ما وضعه القانون من مواد لمعاقبته إذا أدين، وأصبح بإمكان صاحب النّصّ الأصلي أن يجرّ من رآه تعدى على نصّه إلى المحاكم، وأصبح ما يعرف بحقوق الملكية الفكرية، وديوان يحفظ هذه الحقوق، وهناك دواوين خاصة بالملكية الفكرية، وتمنح شهادات تؤكد ملكيتها لصاحبها، وكأنها عقار أو مال،...، أو غيرها من الملكيات العينية، وإن رأى صاحبها الاعتداء عليها بالاقتباس دون إذن أو أخذها بتحوير ولو كان طفيفا، أو توظيف جزء من الفكرة،...، فله أن يطالبه في المحاكم، فمؤخرا بدأت محكمة بريطانية صاحب كتاب "شفرة دافنشي" "دان براون" الّذي اتّهمه "مايكل بايجتن"،و"ريتشارد لي" بأنّه كتاب مقتبس من كتاب لهما هو "اللغز المقدّس" الذي صدر عام 1982م، لكنّ القاضي بيتر سميث،وفي قرار احتوى على واحد وسبعين صفحة، أقرّ براءة "دان براون"، وأضاف أنّه حتّى ولو جرى نقل الفكرة الرئيسية فإنّها شديدة العمومية،وغير مجردة بما يكفي لخضوعها لقوانين حماية الملكية الفكرية[229]، وهذا القرار يلتقي مع ما قاله عبد القاهر الجرجاني بأنّ هناك أمورا متقدّرة في النّفوس يشترك فيها الجميع، ولا يجوز لأحد ادعاؤها لنفسه دون غيره .

وحل التناص intertextualité في الفكر النقدي الحديث محل السرقات الأدبية، " وجذور التّناصّ ترجع إلى مفهوم الحوارية "Dialogisme" التي وضعها النّاقد الرّوسي ميخائيل باختين Mikhael Bakhtine (1895م- 1975م)، وكان قد وضع هذا النّوع في العقود الثّلاثة الأولى من القرن الماضي[230]، والّتي تكلم عنها أو مهّد لها في عدّة أعمال له منها "شعرية دستويفسكي [231] Poétique de Dostoiski، واستمد باختين أسس نظريته من دراسات في الرّواية خاصّة ما أنتجه الكاتبان الرّوسيان تولستوي، ودستويفسكي، ففي عام 1929م أصدر باختين كتابه "شعرية دستويفسكي"، وفيه بيّن أن روايات دستويفسكي تتميّز بتعدّد الأصوات Polyphoniques [232].

التّناصّ "هومصطلح نقدي، يرادفه (التفاعل النصّي)، و(المتعاليات النصّية) TRANSTEXTUALITE، وقد ولد مصطلح التّناصّ على يد جوليا كريستيفا عام 1969م التي استنبطته من باختين في دراسته لدستويفسكي، حيث وضع تعددية الأصوات (البوليفونية)، والحوارية (الديالوج) دون أن يستخدم مصطلح التّناصّ، ثم احتضنته البنيوية الفرنسية، وما بعدها من اتجاهات سيميائية، وتفكيكية، في كتابات كريستيفا، ورولان بارت، وتودوروف" [233]، استلهمت جوليا كريستيفا التناص من ميخائيل باختين، فباختين يميز بين محورين هما الحوار والتضاد، وحسب كريستيفا فهذين المصطلحين ليسا مميزين بدقة وكفاية، ولكن هذا لا يمنع من كون باختين هو أول من ركز على هذا المستوى[234].

"ففي سنة 1966م ألقت جوليا كريستيفا محاضرة بباريس عنوانها: (الكلمة ـ الحوار ـ الرواية)، وقد جاء تقديمها لذلك المفهوم تحت مسمى النصوصية أو عبر النصوص intertextualité في فترة حاسمة من تاريخ النقد الغربي المعاصـــر إذ أنه تزامن مع مرحلة الانتقال من البنوية إلى ما بعد البنوية "[235]، "وجوليا كريستفا هي صاحبة التنظير المنهجي لنظرة التناص حيث استخدمته في تلك المقالات والبحوث التي كتبتها بين سنتي 1966م-1967م، وصدرت في مجلتي Tel quel وCritique، ثم أعادت نشرها في كتابها سيميوتيك.[236]

"وحظي [ التناص ] بالاهتمام الكبير إلى أن استقر في نهاية الستينات مصطلح التناص في الدراسات النقدية الغربية، وأصبح مفهوما نقديا فتح المجال أمام التأويلات العديدة للنص الأدبي بعد أن ضيقت عليه الدراسات الشكلية الخناق، وعزلته عن السياقات الاجتماعية، والتاريخية، فجعله كبنية لغوية مغلقة"[237]، ومن الطريف أن كريستيفا تخلّت أخيراً عن مصطلح التناص، نتيجة انصرافها عن الاهتمام بالواقع التاريخي للخطاب[238]، وعلى الرغم من أن كريستيفا نفسها قد تخلّت عن مصطلح التناص في عام 1985م، وآثرت عليه مصطلحاً آخر هو (التنقّلية)، إذ تقول: "إن هذا المصطلح (التّناصّية) الذي فهم غالباً بالمعنى المبتذل (لنقد الينابيع) [ أو ما يعرف بنقد المصادر ] في نصّ ما، نفضل عليه مصطلح التنقّلية" [239].

و شاع مصطلح التناص في الأبحاث الأدبية، والدراسات النقدية، وهاجر في بداية السبعينيات إلى أمريكا [240]، "وفي عام 1976م أصدرت مجلة (بويطيقا) عدداً خاصاً عن التناص"[241]، وقد استمرت البحوث في النقد الغربي المعاصر حول نظرية التناص حتى تم تبني مصطلح التناص كإجراء نقدي في المنتدى الدولي لبويطيقيا الذي نظمه ريفاتير سنة 1979م[242]،"ففي عام 1979م أقيمت ندوة عالمية عن التناص في جامعة كولومبيا تحت إشراف ريفاتير، ونشرت أعمالها في مجلة " الأدب " عام 1981م[243].

وفي سنة 1982م تحديدا يصدر جيرار جينيت كتابه الشهير" أطراس " palimpseste ليتكلم عن المتعاليات النصية، وهي في جانبها التنظيري تقعيد أو تنظير للتناص، ويشكل هذا الكتاب نقطة هامة في تاريخ التناص، وفي هذا الكتاب يرصد جيرار جينيت المتعاليات النصية ونوردها حسب ترتيبها في الكتاب:

- النّوع الأوّل: "التّناصّ Intertexte ، ( intertextualité)

- النّوع الثّاني: المناصّ Paratexte paratextualité)،)

- النّوع الثّالث: الميتانصّ Metatexte ( metatextualité)

- النّوع الخامس: معمارية النّصّ architexte ( architextualité)

- النّوع الرّابع: النص الشامل[ النّصّ اللاحق ]hypertexte hypertextualité) ) [244]

"ولمّا كان جلّ اهتمام هؤلاء النّقاد منصبا على الرّواية فقد انبرى جون فراو John Frow في كتابه "الماركسية وتاريخ الأدب" [245] marxism and literary history لتوسيع نطاق التّناصّ ليجعله مذهبا يتعلق بأيّ نصّ أدبي، ولإقامة علاقة بين النّصّ ونفسه، أي بين العمل الأدبي باعتباره نصّا جديدا وبين صورته لدى القارئ باعتباره نصّا أدبيّا رسميّا أو معتمدا، ومعنى ذلك إفساح مجال أكبر لا يجافيه القارئ لتفهم النّصّ"[246].

التناص له عدة تعاريف منها تعريف فيليب سولرس F. Sollers: " كل نص يقع في مفترق طرق عدة نصوص فيكون في آن واحد إعادة قراءة لها، وامتداد وتكثيفا ونقلا وتعميقا "[247]، و تزفيطان تودوروف يعرفه بقوله:" أن التناص هو عملية استرداد، ونقل لتعابير سابقة أو متزامنة مع النص المكتوب فهو اقتطاع وتحويل، وكل ذلك يشكل النص، وينتمي إليه انتماء جماليا وفكريا[248]، التناص عند تزفيطان " هو التقاطع داخل نص لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى"[249].

وجوليا كريستيفا ترى أن "كل نص يتشكل من تركيبة فسيفسائية من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى ويعرفه جيرار جينيت فيقول :" أمّا أنا أعرفه بطريقة لاشكّ أنها مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين نصّين أو عدّة نصوص، بمعنى عن طريق الاستحضار Eidétiquement، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعلي لنص داخل آخر بشكلها الأكثر جلاء وحرفية، وهي الطّريقة المتبعة قديما في الاستشهاد Citation [...]، وفي حال السّرقة الأدبيّة Plagiat [...]، وفي حال التّلميح ’allusion"[250]، وبناء على هذا لا يُعْنَى "جيرار جينيت" بالنّص بل بما يُسَمِّيه "التعالي النصّي " أَي ما يجعل النصّ في علاقة خفيّة أم جليّة, مع غيره من النصوص"[251]، وإذا كان جيرار جينيت يتكلم عن المتعاليات النصية فيعرفها بقوله:" التعالي النص وهو ما كنت عرفته من قبل بشكل عام بقول: إنه كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى"[252]، فالتناص هو مجموع العلاقات التي تربط نص أدبي بنص آخر أو مجموعة نصوص بكيفيات مختلفة ( التضمين، السرقة، التلميح اللحن...)[253].

أما عند الدارسين والباحثين العرب، فلقد وجدنا عدة تعاريف ومنها تعريف الدكتور سمير سعيد حجازي الذي عرفه بقوله :" التناص هو مفهوم يدل على وجود نص أصلي في مجال الأدب والنقد أو العلم على علاقة بنصوص أخرى وأن هذه النصوص قد مارست تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على النص الأصلي في مرحلة تاريخية محددة"[254]، وعرفه صبري حافظ بما نصه :"التناص هو" التفاعل بين النصوص من خلال الإحلال أو الإزاحة أو الترسيب" [255]، وعرفه محمد عزام بقوله:" التناص تشكيل نصّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو النّص المتناصّ خلاصة لعدد من النصوص التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث لم يبق من النصوص السابقة سوى مادتها، وغاب (الأصل) فلا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران"[256].

وبعد هذه التعاريف المتفرقة بين الدارسين الغربيين والعرب المحدثين، يخلص لنا أن التناص: هو دخول نصين أو أكثر في علاقات مختلفة ( شرح وتفسير، معارضة، استشهاد،...)، وبكيفيات مختلفة ( ظاهرة، خفية )، وهذه النصوص المتفاعلة قد تكون لنفس الكاتب، أو لكتاب آخرين باختلاف الزمان والمكان، وبطريقة عفوية (اعتباطية)، أو بطريقة مقصودة، وبأشكال متنوعة بين الاجترار، الامتصاص، والمعارضة والحوار.

فعمر أوكان بعد قراءته لتعريف جيرار جينيت للتناص يقول بأن التناص عند جيرار جينيت " كما هو عند جوليا كريستيفا يعني العلاقة بين نصين أو أكثر كما يتجلى [ في ثلاثة أنواع] :

- في صورته الأكثر ووضوحا والأكثر أدبية، والتي هي الاستشهاد [ بشكل حرفي وواضح بالعزو إلى مصادره].

- في صورته الأقل ووضوحا والأقل قانونية، والتي هي السرقة [ بشكل حرفي أو غير حرفي، وغير واضح بعدم العزو إلى مصادره ]

- في صورته الأقل ووضوحا والأقل أدبية، والتي هي التلميح [ بشكل غير واضح وغير حرفي ]"[257]،

ونستدرك على هذا بـنوع رابع من استنباطنا وهو:

- في صورة الأكثر وضوحا والأقل أدبية، والتي هي الإحالة، بشكل واضح وغير حرفي، كما هو الحال في الاقتباسات العلمية في مناهج البحث العلمي. أو غيره مثلما هو الحال في الخطب يوم الجمعة، والإحالة هنا قد تكون كتابة أو بشكل شفوي.

وما نعقب على هذا التقسيم، وهو أن السرقات الأدبية ليست دائما هي أقل وضوحا، فهناك سرقات أكثر وضوحا، كانتحال الأعمال، أو أخذ الأفكار والتصرف فيها وتبقى واضحة، أو أخذ جزء من قصة أو رواية أو حتى كلها بتغييرات طفيفة، ولكن السمة الغالبة في السرقات هي أقل وضوحا لأن السارق يعمد لإخفاء مسروقه بتغييرات كبيرة، وتعديلات، وتحويرات،...، حتى يطمس معالم مسروقه، لكيلا يكتشف أمره.

وكل المصطلحات التي مرت معنا في باب السرقات الأدبية عند النقاد المتقدمين: التضمين، الاقتباس، الحل، العقد، التلميح، الإجازة، التمليط، السلب، الإغارة، التلفيق، النظر والملاحظة،...، كلها في أبسط تعريفها هي دخول نص أو أكثر في علاقة مع نص آخر، بطرق وأشكال متعددة، وبالتالي فهي وجه من أوجه التناص.

وللتّناصّ أقسام هي آليات توظيف النّصّ السّابق في النّصّ اللاحق، أو بأيّ طريقة يدرج، ولنقل الكيفيات المستخدمة في إدخال النّصّ الأصلي في النّصّ المتفرّع، ونظرا لما وجدنا من عدة أقسام، فسنقسمها كالتالي، أقسام التناص حسب التصرف في النصوص السابقة، وأقسام التناص حسب القصد وعدمه، وتفصيل هذه التقسيمات كالتالي:

"ومن التّقسيمات الثّلاثية للتّناصّ ما قام به كلّ من كريستيفا، وجان لوي بملاحظتهما أنّ للتّناصّ أو لإعادة كتابة النصوص السابقة ثلاث قوانين هي:

1- الاجترار: عملية إعادة الكتابة النّصّ الغائب بوعي سكوني، وتمجيد بعض مظاهره الشّكلية الخارجية[ أي أخذ النص بكاملة دون تغيير كبير وإدراجه في نص آخر ]

2- الامتصاص: عملية إعادة كتابة النّصّ الغائب وفق النّصّ الجديد ليصبح امتصاصا له متعاملا معه [بشكل] حركي وتحولي[ وهو يعني أخذ أكثر المعنى وقليل من الألفاظ]

3- الحوار: عملية تغيير النّصّ الغائب، ونفي قدسيته في العمليات السّابقة[258]، والحوار هنا لا يعنى بالضرورة عكس النص السابق، أو قلبه على معناه أو مراميه، فقد يكون بشكل شرح أو تفسير، أو تعقيب.

وإذا تكلمنا عن التّضاد والتّناقض، وهما مفهومان يكتنفان النّفي المنطقي للنّصّ السّابق "فإنّنا نجد جوليا كريستيفا تضع النّفي على ثلاث أقسام:

- "النّفي الكلّي: وفيه يكون المقطع الدّخيل منفيا كليا، ومعنى النّصّ المرجعي مقلوبا.

- النّفي المتوازي: حيث يظلّ المعنى المنطقي للمقطعين هو نفسه إلاّ أنّ هذا لا يمنع من أن يمنح "لوتريامون" للنّصّ المرجعي معنا جديدا معاديا للإنسية، والعاطفية والرومانسية الّتي تطبع الأوّل مثلا هذا مقطع "للأروشفوكو":"وإنّه لدليل على وهن الصّداقة عدم الانتباه لانطفاء صداقة أصدقاءنا"، والحال يصبح عند لوتريامون :"وإنّه لدليل على الصّداقة عدم الانتباه لتنامي صداقة أصدقاءنا".

- النّفي الجزئي: حيث يكون جزء واحد فقط من النّصّ المرجعي منفيا"[259].

وهنا وجب القول بأن الاجترار عند كريستيفا وجان لوي يقابله في النقد العربي القديم :النسخ ، التضمين، الاقباس، الحل، العقد،...، والامتصاص يقابله: المسخ، السلخ، الإلمام، النظر والملاحظة، الالتقاط والتلفيق، الاهتدام، كشف المعنى، والحوار يقابله: العكس، الموازنة،...، وهذا ما يؤكد بأن التناص ما هو إلا قراءة أخرى لمفاهيم ومصطلحات السرقات الأدبية التي عرفت في النقد العربي القديم، وما أكثرها، فما ذكرنا إلا القليل، والنزر اليسير.

وهناك تقسيم آخر للتناص بين الجلاء والخفاء، أو بين الظاهر والمستتر، لاحظ ميخائيل باختين أن الأصوات المتجلية في روايات هذا الاكتشاف تولستوي و دو ستوفسكي هي ذات طابع جدالي بصورة مكشوفة أو خفية في آن واحد زد على أنها تتجادل ليس فقط مع الناس الآخرين بل مع نفس مادة تفكيرها ومع العالم ونظامه [260]، وبناء على هذا جعل جيرار جينيت المتعاليات النصية هي : "ما يجعل النصّ في علاقة خفيّة أو ظاهرة, مع غيره من النصوص"[261]، جيرار جينيت عندما يتكلم عن المتعاليات النصية فيعرفها بقوله :" التعالي النص وهو ماكنت عرفته من قبل بشكل عام بقول : إنه كل ما يضع النص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى" [262] ويقول جون بيي : "التناص هو كل علاقة بين نص نصوص الأخرى بشكل ظاهر أو خفي" [263]، وعلى هذا تتجلى العلاقة بين النصوص المتفاعلة بين الظاهر والخفاء، بمعنى آخر بأن النصوص الموجودة في النص وساهمت في بنائه تكون في تموقعها تدور بين أنها ظاهرة مكشوفة، ومختفية مستترة.

وفي هذا يقترح الدكتور شربل داغر، تناص مباشر :

- " تناص مباشر يمكن أن يكون تاما أو مجزوءا أو محورا

- تناص غير مباشر فهو يستنبط من النص استنباطا ويرجع على تناص الأفكار أو المقروء الثقافي أو الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصها بروحها أو بمعناها لا بحرفيتها أو لغتها وتفهم من تلميحات النص وإيماءاته وشفراته وتر ميزاته "[264]، ومن هذا وذاك نقترح ثلاثة أقسام وهي:

- تناص بجلاء ( وضوح ) أي أن النصوص السابقة المتمظهرة والمتموقعة في النص اللاحق تظهر جليا وبوضوح تام من حيث المعاني والألفاظ.

- تناص خفاء ( مستتر )، وهو عكس الأول فالنصوص السابقة لا تظهر بشكل جلي، وإنما بخفاء نتيجة ما مس معانيها وألفاظها من تحوير أو امتصاص، أو تغيير أو طمس معالمها، ولا يدركها إلا القارئ الحصيف الكفء.

- تناص بين الجلاء والخفاء، فهو يتوسط النوعين السابقين بحيث أن النصوص السابقة في النص تظهر بشكل غير كامل كأن تكون مطموسة المعالم في بعضها، ويترك باقيها، وكأن يؤخذ بعض المعنى، ولا يدركها إلا القارئ الحصيف، ومن الأمثلة نورد مثلا فن التلميح فالملمح يحيلك إلى النص السابق، فهنا نجد شقين شق ظاهر وهو إحالة الملمح للنص السابق، وشق خفي وهو النص الملمح إليه لأن الملمح لا يذكره صراحة بل يلمح له فقط، أضف إلى هذا عندما نجد أخذ بعض المعاني من نصوص سابقة، أو بعض اللفظ والمعنى،... ، وهذا التقسيم الذي أورده باختين، كريستيفا، وجيرار جينيت، وغيرهم للتناص بين الظاهر والخفي، هو نفسه عند القزويني عندما قسم السرقات بين السرقات الظاهرة وغير الظاهرة[265]، بل هو أكثر تفصيلا وتقعيدا، وهو ما مر معنا آنفا.

فالتناص حل محل السرقات الأدبية، فكل المصطلحات والمفاهيم التي مرت معنا آنفا في السرقات الأدبية عند العلماء العرب المتقدمين تشكل وجها من أوجه التناص[266]، بل هي أكثر تفصيلا وتقعيدا، وهذا ما يذهب إليه جل الدارسين العرب المحدثين، والأمر الآخر لا يمكن اعتماد كل السرقات الأدبية في العصر الحديث على أنها وجه من أوجه التناص فهناك سرقات أدبية وانتحالات لا علاقة للتناص بها، فهو بريء منها، ونسميها سرقات أدبية، ولا نطلق عليها اسم التناص، والناقد الفذ الحصيف هو من يرسم حدودا فاصلة بين التناص والسرقات الأدبية، وجيرار جينيت يضع السرقة الأدبية التي هي انتحال ،في النوع الأول من المتعاليات النصية، فيقول في المتعالية الأولى حول تعريف التناص:" أمّا أنا أعرفه بطريقة لاشكّ أنها مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين نصّين أو عدّة نصوص، بمعنى عن طريق الاستحضار Eidétiquement، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعلي لنص داخل آخر بشكلها الأكثر جلاء وحرفية، وهي الطّريقة المتبعة قديما في الاستشهاد Citation [...]، وفي حال السّرقة الأدبيّة Plagiat [...]، وفي حال التّلميح ’allusion"[267]، السّرقة الأدبيّة Plagiat ، هي بمعنى انتحال الأعمال، أو توظيف جزء منها، أو أخذ الأفكار والتصرف فيها، أو الاقتباسات والتحويرات دون إذن من صاحبها،...، والملاحظة الأخرى أنه يضع التلميح والاستشهادات التي يمكن أن يكون التضمين والاقتباس،...، أحد أوجه الاستشهادات، فهو يضعها في المتعالية الأولى.

وهنا نقول بأن المصطلحات التي مرت معنا في أنواع السرقات الأدبية: الإغارة، السلب، الالتقاط والتلفيق، النظر والملاحظة، الإلمام، النسخ ، السلخ ، المسخ، الاهتدام، كشف المعنى، المجدود، الموازنة، المواردة، العكس، الإجازة، التمليط، المرافدة، الاختلاس، الاصطراف، الاجتلاب، التضمين، الاقتباس، الحل، العقد، التلميح، ائتلاف المعنى على المعنى، التوليد، النوادر، الاستخدام، المواربة، التورية، الإشارة، الاستتباع، الإدماج، التتبع، والمعارضات الشعرية، تداول المعاني، المناقضة،...، هي وجه من أوجه التناص، وما ذكرناه على سبيل المثال فقط، و هناك الكثير من المصطلحات والمفاهيم في الفكر العربي القديم تدخل من هذا الباب.

وأمر تقاطع وتقارب الكثير من المصطلحات والمفاهيم من النقد العربي القديم مع التناص لا يحتاج لدليل مثل النهار الذي لا يحتاج لدليل، فهي أن هذه المصطلحات كلها تصب في معنى أنها نص أو مجموعة نصوص دخلت في علاقة مع نص لاحق بطريقة معينة، وما التناص في أبسط تعاريفه إلا هذا، ولا ينكره إلا أناس تعصبوا للفكر الغربي، يحبون كل ما هو آت من الغرب، ولا يحبون أن القول بأن هذه الفكرة أو المفهوم موجود عند العلماء العرب المتقدمون، ظنا منهم عن جهل أن الفكر العربي القديم قاصر أمام الفكر الغربي الحديث والمعاصر ، والطامة الكبرى أن الداعين لهذا، وهم قلائل، هم دارسون عرب، فإذا كان جيرار جينيت منظر التناص يضع مصطلحات ومفاهيم ( التلميح، التضمين، الاستشهادات،السرقة...مثلا) من الفكر العربي القديم ضمن التناص، وينكرها هؤلاء المتحذلقين، بل نجدهم يحورون القول بأن السرقة التي عناها جيرار جينيت أو التلميح ليست هي بمفاهيم التي هي عليها في النقد القديم، ولا نذكرهم احتراما وتقديرا، وحتى لا نشهر لأسمائهم وأعمالهم، وإن كانت أسماؤهم معروفة أكثر من أسمائنا، فما عسانا أن نقول لهم : بأن كيدكم مردود إلى نحوركم، وجفاؤكم وصدودكم عن النقد العربي الأصيل، وجهود العلماء المتقدين، لا يقلل من قيمة هذا وذاك.

توارد الخوطر في السرقات الأدبية

فصل النقاد المتقدمون أنواع السرقات الأدبية، وإن اختلفت هذه الأقسام من ناقد لآخر، إلا أنهم لم يغفلوا ولم يختلفوا في أمر توارد الأفكار والخواطر، واستثنوا هذا الجانب من السرقات الأدبية، لأن الشعراء لا دخل لهم حيال هذا الأمر، ولا يلامون عليه، غير أن هذا الباب يبقى ملاذ السارقين الأدبين، لأنهم ببساطة سيقولون، إن هذا من باب توارد الخواطر والأفكار، وهذا ما أشار إليه الجاحظ إذ يقول:"ولا يكون أحد منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه، أو لعلّه يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قط،وقال إنّه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأوّل"[268]، وابن رشيق قال في هذا الصدد على الشاعر اللاحق أن يحلف بأنه لم يسمع من الشاعر السابق، وعند قسمه يكون بريئا من السرقة،[269]، على خطى البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فلمعرفة وكشف توارد الخواطر أمر صعب، ولا ينتفي إلا باليمين والقسم .

وتوارد الخواطر لا يوجد ما يبرره، غير أنه إلهامي، أو مرده إلى البيئة الواحدة، فالشعراء والكتاب المنتسبين للبيئة الواحدة تأتي أفكارهم متقاربة، وفي هذا يقول أبو هلال العسكري :"وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، وفي أرض واحدة فإنّ خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم،وشمائلهم تكون متضارعة"[270]، وما ما نضيفه هاهنا أنه قد يكون من باب اللاوعي، فقد يكون الشاعر قد التهم هذا المعنى في ما سبق ثم يتوارد له على سطح بيانه، وتعبيره، ويتخيل له أنه يلتقي به أول مرة، وهذا ما جعل محمد مندور يفصله بقوله في التأثر :" وهو أن يأخذ شاعر، أو كاتب بمذهب غيره في الفنّ، والأسلوب،ولقد يكون هذا التّأثّر تتلمذا، كما قد يكون عن غير وعي، إنّما النّقد هو الذي يكشف عنه "[271]، وهذا التطابق رده محمد مندور إلى التتلمذ، أو اللاوعي، و ترك باب النقد هو الفاصل في هذا التطابق، فهو الذي يقـرر إن كان توارد، أو تأثر، أو مرد هذا إلى أن هناك تعابير وأفكار مرتسمة في كل العقول ووفق العادات كما قال عبد القاهر الجرجاني: "وأمّا الاتّفاق في وجه الدّلالة على الغرض فيجب أن ينظر فإن كان مما يشترك النّاس في معرفته،وكان مستقرّا في العقول، والعادات فإنّ حكم ذلك،وإن كان خصوصا في المعنى حكم العموم الّذي تقدم ذكره فمن ذلك التّشبيه بالأسد في الشّجاعة، وبالبحر في السّخاء"[272]، وسار الآمدي والقاضي الجرجاني صاحب الوساطة، وابن رشيق القيرواني في هذا الاتجاه[273].

وتوارد الخواطر والأفكار لا مناص منه لشاعر أو ناثر، ولكن مصدره يبقى مجهولا فإما أن تكون البيئة واحدة أو تأثر بقراءة ثم نسيان ومن بعد ذلك طفوها على سطح اللسان فتكون كالتقاء لأول مرة، أو إلهاما ...، ودليلنا على ما قلنا أنه " سئل أبو عمرو بن العلاء (ت 154 هـ): أرأيت الشّاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، ولم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع شعره، قال: تلك عقول الرّجال توافت على ألسنتها"[274]-،" وسئل أبو الطّيّب [المتنبي] (ت354هـ) عن مثل ذلك فقال: الشّعر جادة وربّما وقع الحافر موضع الحافر"[275]، يقول حازم القرطاجني (ت 684هـ) :"إنّ من المعاني ما يوجد مرتسما في كلّ فكر، ومتصوّرا في كلّ خاطر، ومنها ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض"[276]، وحازم القرطاجني يؤكد ارتسام وتوارد الخواطر من جهة المعاني فقط، ولكنه لم يدرج توارد الخواطر في الألفاظ والمعاني معا، ويستثني بعض المعاني التي لا يمكن ارتسامها في كل العقول.

والتوارد من جهة المعاني والألفاظ لم يعده العلماء المتقدمون من أنواع السرقات الأدبية، فهذا ابن الأثير يقول : "يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم سرقة"[277]، ويقول أبو هلال العسكري (ت395هـ):"وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدّم من غير أن يلمّ به، ولكن كما وقع للأوّل وقع للآخر، وهذا أمر عرفته من نفسي فلست أمتري فيه، وذلك أنّي عملت شيئا في صفة النّساء.

"سفرن بدورا وانتقبنّ أهلة"

وظننت أنّي سبقت إلى جمع هذين التّشبيهين في نصف بيت إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين، فكثر تعجبي، وعزمت على أن لا أحكم على المتأخّر بالسّرق من المتقدّم حكما حتما"[278].

وما قاله أبو هلال العسكري في صفة النّساء : "سفرن بدورا و انتقبن أهلة " سبقه فيه أيضا قول أبي تمّام(ت231هـ):

تريك هلالا أو يقال لها أسفري فتسفر شمسا أو يقال تنقبي[279]

والخطيب القزويني يختم قوله في أنواع السرقات قائلا : "هذا كلّه إذا علم أنّ الثّاني أخذ من الأوّل،وهذا لا يعلم إلاّ بأنّه كان يحفظ قول الأوّل حيث نظم قوله أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذ منه بجواز أن يكون الاتّفاق من قبيل توارد الخواطر"[280]، فهذه أدلة وشواهد ينتفي أمر إدراج التوارد للخواطر في باب السرقات الأدبية.

وإذا كان بيتي طرفة بن العبد وامرئ القيس الشهرين عدها العلماء في باب التوارد، ووضعهما ابن رشيق القيرواني كمثال للمواردة فقال فيها : " وأمّا المواردة فقد ادّعاها قوم في بيت امرئ القيس،وطرفة،ولا أظنّ هذا ممّا يصّح "[281]، وإن قال ابن رشيق بأن هذا لا يصح بين هذين البيتين لأنهما متطابقان كل التطابق لفظا ومعنا إلا أنه قال: " إلاّ أنّهم ذكروا أنّ طرفه لم يثبت له البيت حتى استحلف أنّه لم يسمعه قط، فحلف،وإذا صّح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر [واحد]" [282]، فطرفة بن العبد حلفا يمينا بأنه لم يسمع بيت امرئ القيس، والمقصود هنا بيت امرئ القيس حين قال في معلقته:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل[283]

وبيت طرفة بن العبد في معلقته عندما قال:

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد[284]

فإن صح هذا التوارد من جهة الألفاظ والمعاني وهذا التطابق الكلي، وتجلد وتجمل لهما نفس المعنى ولم يختلفا إلا في حرفين، وتوارد الخواطر أمر مفروض بالقوة، فمن ألهم هذا يلهم ذاك، أو مرده للبيئة الواحدة، فهي تفرض أساليب متقاربة في التعابير والتفكير، أو مرده لأمر اللاوعي فقد يكون النص التهم في ما سبق، وبعد نسيانه يظهر للسطح المبدع ويخيل له وكأنه التقى به أول مرة.

غير أننا نؤكد بأن توارد الخواطر في المعاني شائع، لكن توارد الخواطر في اللفظ والمعنى معا هو قليل، بحيث تأتي التعابير متطابقة كل التطابق حتى في حروف العطف فهذا نادر جدا، ولا ننفيه.



ملاحظة: - كل ما وضع في متن الدراسة بين معقوفتين [ ] فهو من وضعنا.

- وكل ثلاث نقاط بين معقوفتين [...] فهو دليل على حذف من عندنا من النص الأصلي.

هذا المقال منشور بهوامشه في مجلة دراسات أدبية العدد الخامس 05 فيفري 2010 من الصفحة 15 إلى الصفحة 75 ومجلة دراسات أدبية مجلة علمية محكمة يصدرها مركز البصيرة للدراسات والبحوث بالجزائر، وتوزعها دار الخلدونية للنشر والتوزيع





هناك 4 تعليقات:

  1. موضوع شيق وجزاكم الله الف خير

    ردحذف
  2. اين المصادر ؟ المرجو توضيحها

    ردحذف
  3. شكرا لبحثك المعمق ، لكن ياريت ذكرت المصادر كيف لنا ان نستفيد منها في بحوثنا ؟

    ردحذف