من أنا

صورتي
الأستاذ ريوقي عبد الحليم أستاذ جامعي رئيس تحرير مجلة علمية محكمة عضو خلية الذخيرة العربية بالمجمع الجزائري للغة العربية رئيس منتدى البحوث والدراسات والترجمة يمتلك خبرة 12 سنة في عالم الكتاب والتوثيق والمعارض الولائية والوطنية والدولية مارس الإدارة لأكثر من ستة سنوات في مجالات مختلفة مارس الصحافة لأكثر من سنتين

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2010

إبداع النص الأدبي بين الوعي واللاوعي

إبداع النص الأدبي بين الوعي واللاوعي

 
الأستاذ: عبد الحليم ريوقي

جامعة البليدة



أخذ النص الأدبي بأجناسه المتعددة حيزا كبيرا من الاهتمام النقدي عند المتقدمين والمتأخرين، إن على مستوى الشروط، الخصائص، المميزات، والجماليات...، أو نقد المضمون والشكل ... ، أو على مستويات وآليات إبداعه ، وإن كنا نلمس بأن تتبع إبداع النص الأدبي لم يأخذ القدر الكافي من الاهتمام بالنظر إلى حجم الاهتمامات النقدية في الجوانب الأخرى للنص الأدبي وهي متعددة يصعب حصرها ، أو على الأقل ذكرها، فأردنا بهذا البحث أن نحصر نظرة المتقدمين والمحدثين إلى إبداع النص الأدبي، وهي نظرات مختلفة باختلاف الزمان والمكان ، وفي هذه الرقعة المحدودة المتاحة لنا لعرض بحثنا ، هي التي جعلتنا نوجز في بعض المرات دون أن نخل، ونطنب مرات أخرى دون أن نمل ، بدأنا عرضنا بنظرة اليونانيين لإنتاج النص الأدبي المحصورة في القوى الخفية ، وختمنا بنظرة المحدثين الذين أصروا على النص الأدبي هو نتاج نصوص أخرى متراكمة في نفس المبدع الذي يكون قد التهمها في وقت سابق بالقراءة أو السماع، ثم تطفو على سطح إبداعاته ، وكأنه التقى بها لأول مرة، واضعين التناص بذلك أساس كل إبداع ، وتعاريف التناص تلتقي على أنّ النّصّ هو مجموعة نصوص تتقاطع فيما بينها بطريقة أو بأخرى، ومن نسبة ضئيلة إلى نسبة أكبر حسب كلّ مدلول من المدلولات السّابقة، لزم الأمر علينا أن ندرس هذا التّقاطع للنّصوص السّابقة أو المتزامنة مع النّصّ المبدع، وهنا كان علينا أن نجيب على سؤالين:

الأوّل : هل النّصّ هو مجموعة نصوص تتقاطع وتتداخل لتشكّل نصّا آخر؟.

والثّاني : إذا كان الجواب بنعم على السؤال الأول، فكيف تتشكل وتتقاطع هذه النّصوص وتخرج لتطفو على سطح بيان المبدع، هل من الوعي أو من اللاوعي؟.

إبداع النّصّ عند المتقدّمين :

نظر المتقدّمون إلى النّصّ المبدع على أنّه نتاج إلهام من القوى الخفيّة، أو أنّه إلهام من الله تعالى أو أنّ المبدع يقف وراء إنتاج نصّه وفق طبعه وتطبعه ومرانه ودربته، والأمور المكتسبة من بيئته، وسنطرق ونفتح كل باب من الأبواب التي ذكرناها ليقف القارئ على حدودها ومعالمها.

أولا :إبداع النّصّ والقوى الخفيّة :

نعرج أولا على الأدب اليوناني فهو من أقدم الآداب، ووصل النزر اليسير منه إلينا مكتوبا، فاليونانيون بصفة عامة، والنّقّاد بصفة خاصة يقرون بأنّ النّصّ الأدبيّ هو نتيجة إلهام من قوى خفيّة، فقد ذهب أفلاطون على لسان سقراط إلى "أنّ عامة المحسنين من الشّعراء سواء في ذلك شعراء الملاحم أم الشّعراء الغنائيين لا ينظمون قصائدهم الجميلة على أنّها إنتاج فنيّ بل لأنّهم ملهمون تملكهم الشّياطين" [1]، فالشّعب اليوناني في حضارته القديمة كانت الآلهة تسيطر على مناحي الحياة عندهم، فكبير الآلهة عندهم "زيوس"، ولكلّ منحى من مناحي الحياة إله له [2]، فإله الشّعر هو أبولو Apollo، وإلى جانب أنّه إله الفنون الشّعرية، فهو إله النّور، والفنون والجمال عند اليونان [3]، وربط الشّعر بالخمر، فكان ديونيزوس عند اليونانيين القدماء إلها للشّعر لأنّه كان إلها للخمر قبل أن يكون أبولو إلها له [4].

أمّا عند العرب "ففي العصر الجاهلي نظرتهم إلى النّصّ الأدبيّ لا تختلف كثيرا عمّا شاع عند غيرهم من الأمم، وآمن العرب كما آمن غيرهم بأنّ هذا الشّعر وحي يوحى، وفن تلقيه القوى العليا على المصطفين الأخيار من بني آدم فينطقون بلسان هذه القوى، ويذيعون في النّاس ما تلهمهم ربات الشّعر أو شياطين الشّعراء" [5]، "وقد آمن بهذه الفكرة في عهد الأساطير وظلّت شائعة عندهم حتّى حفظها عصر التّدوين فأخبرنا الرّواة، وسجل لنا المؤلّفون شيئا مما كان يعتقد آبائهم في الجاهلية خاصة بشياطين الشّعراء" [6]، ويقول الجاحظ :"إنهم يزعمون أنّ مع كلّ فحل من الشّعراء شيطانا يقول ذلك الفحل على لسانه الشّعر" [7]، ونجد حسان بن ثابت الشّاعر المخضرم بين العصر الجاهلي والإسلامي يقول :

لا أسرق الشّعراء ما نطقوا بل لا يوافق شعرهم شـعري

إنّي أبي لي ذلكم حـسبي ومقاله كمقاطع الصّـــخر

وأخي من الجنّ البصـير إذا حاك الكلام بأحسن الحـبر [8]

والبيت الأخير هو دليل على ما سبق، ونذهب إلى أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال هذه الأبيات في أيام جاهليته قبل أن يدرك الإسلام. ولكل شاعر في العصر الجاهلي شيطانه في الشعر فهذا شيطانه هبيذ، والآخر شيطانه لافظ...

والعرب لا ترد الشّعر فقط إلى الشّياطين والجنّ بل تردّ إليهم كلّ شيء عجيب مما يصعب عمله قال ابن الأثير: "عبقر قرية تسكنها الجنّ فيما زعموا، فكلّما رأوا شيئا فائقا غريبا ممّا يصعب عمله، ويدقّ أو شيئا عظيما في نفسه نسبوه إليها فقالوا: عبقري" [9]، ولم تبق هذه الفكرة حصرا على العصر الجاهلي ،وامتدت إلى العصر الأموي، "ذكروا أنّ رجلا أتى الفرزدق (ت114هـ) فقال: إنّي قلت شعرا فانظره، قال: انشده، فقال:

ومنهمو عمر المحمود نائله كأنّما رأسه طين الخواتيم

ضحك الفرزدق، ثمّ قال: إنّ للشّعراء شيطانين، يدعى أحدهما الهوبر، والآخر الهوجل فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصحّ كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنّهما قد اجتمعا إليك في هذا البيت، فكان معك الهوبر في أوّله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره ففسدت" [10].

وفي العصر الحديث من يرجع النصّ إلى قوى خفية أخرى كالأحلام مثلا، "فيقال مثلا أن فاجنر Wagner سمع في منامه النّغم الأساسي الّذي يتردّد في افتتاحية إحدى روائعه الموسيقية Das Reingold ،وكذلك يقول ماسفيلد J. Masfiled الشّاعر الرّوائي الإنجليزي المعاصر أنّ قصيدته "المرآة تتكلم" ظهرت له في الحلم منقوشة بحروف بارزة على صفحة مستطيلة من المعدن، وما كان عليه إلاّ أن ينسخها" [11].

ومن النقاد المتقدّمين من يرجع جودة القريحة، وبلاغة النّصّ إلى الله سبحانه وتعالى ، فنجد مثلا أبو هلال العسكري يقول: "فأوّل البلاغة اجتماع آلة البلاغة، وأوّل آلات البلاغة جودة القريحة وطلاقة اللسان، وذلك من فعل الله تعالى لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه، واجتلابه لها" [12]، فطلاقة اللسان أداة إبداع النّصّ وإخراجه من باطن الإنسان، وجودة القريحة هي من تشكّله وتهندس أركانه، وإنّ كثيرا من النّاس يحملون في مخيلتهم قصصا، وحتّى روايات، ولربّما قصائد، أو لنقل يحملون تصورات أو هياكل أولى، ولكن تخونهم طلاقة اللسان، وجودة القريحة، ولا يمتلكون أساليب التّعبير والبيان، وآلات البلاغة، وعلى هذا يمكن أن نقول بأنّ إبداع النّصّ في آخر مراحله تحرره طلاقة اللسان، وجودة القريحة، وأساليب التّعبير، والبيان وآلات البلاغة.

وإذا فتشنا في آي القرآن الكريم نجد آية قد تؤكد إلى ما ذهب إليه أبو هلال العسكري، وهي قول الله تعالى "﴿الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان﴾" [13]، وإذا ما تتبعنا آراء وأقوال المفسرين في تفسير"علّمه البيان"، نجد عدّة أراء، ومنها "قال الحسن يعني النّطق ،وقال الضّحاك وقتادة وغيرهما يعني الخير والشرّ، [وقال ابن كثير] قول الحسن ها هنا أحسن، وأقوى لأنّ السّياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداة تلاوته، وإنّما يكون بتيسير النّطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشّفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها" [14].

وقال السّيوطي "علّمه البيان": علّمه النّطق [15]، وفسّرها القاسمي [ت1914م]: "إيماء بأنّه خلق البشر، وما تميّز به عن سائر الحيوان، [هو] البيان، وهو التّعبير عمّا في الضّمير [...] ،وقال الأصفهاني [...] جعل قوله (علّمه) تفسيرا لقوله (خلق الإنسان) تنبيها أنّ خلقه إيّاه هو تخصيصه بالبيان" [16]، وفسّرها عبد الرحمن بن ناصر آل السّعدي: "علّمه البيان أي التبيين عمّا في ضميره، وهذا شامل للتّعليم النّطقي، التّعليم الخطّي، فالبيان الذي ميّز الله به الآدميّ على غيره من أجلّ نعمه وأكبرها عليه" [17].

فالبيان وتبيان ما في الضمير والقدرة عليه، تدخل بشكل أو بآخر في إبداع النّصّ، لأنّ ما من كاتب أو شاعر أو متكلم إلاّ ويسعى لتبيان ما في ضميره أو ما يهدف إليه.

وردّ النّاس حتّى العلوم والاكتشافات إلى الله، فنجد ابن خلدون عندما اكتشف علم العمران والّذي سيسمّى فيما بعد بعلم الاجتماع، ردّ هذا الاكتشاف إلى الله تعالى، فيقول: "ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما وأعثرنا على علم جعلنا سنّ بكره، وجهينة خبره، فإن كنت قد استوفيت مسائله وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره فتوفيق من الله وهداية..." [18]، ونجد آية من القرآن الكريم تؤكد أنّ ما يتعلّمه الإنسان هو من عند الله، يقول الله تعالى﴿ اقرأ وربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم﴾ [19] ، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام مع جالوت ﴿فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة﴾ [20] ،وقال الله تعالى﴿ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾ [21]، وقال الله تعالى في حق سيّدنا داود عليه السلام ﴿وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ [22] ،وقال الله تعالى﴿ ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد﴾ [23] ،وقال الله تعالى ﴿أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما﴾ [24]، فالحكمة في هذه الآيات تدل حسن البيان والتعليل، والحجة الدامغة، وفصاحة القول، وسداد الرأي، وتبصر الأمور ومآلها، أو نقل الخبرات الماضية، وتجارب سابقة، وإن صح القياس والتقدير، وانطلقنا من أن النص وصاحبه يعتمد على ما قلنا من تبصر الأمور ونقل الخبرات ووجهات الرأي والخبرات وما في البواطن والرأي السديد وفصاحة القول وحسن البيان والتعليل والحجة الفاصلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالنص مكون من وحدات ( جمل، عبارات...) والحكمة في جانبها التطبيقي ماهي إلا وحدات من الجمل والعبارات ولا يكتمل النص إلا بتراص هذه الوحدات، والكل هو أجزاء، وأنا لا أجزم بل أسأل أليس هذا دليلا على أن النص إلهام من الله ؟، هذا إن فهمني القارئ فيما قصدت.

فهذه أسطر سقناها مختصرة، لنقف على أنّ النّصّ مردّه إلى الله تعالى، أو الجنّ والشّياطين أو حتّى الأحلام، وهي أمور لا نفندها ولا نقر بصحتها لعدّة أسباب يطول شرحها، وتخرجنا عن موضوعنا. وحتى لا ندخل في صراع نحن في غنى عنه، ونجد أنفسنا محاصرين بآراء المعتزلة والجهمية والأشاعرة ...، وهل الإنسان مسير أم مخير؟. والداخل فيه لا يخرج وإن خرج خرج محتارا بين الحجج.

ثانيا: إبداع النّصّ بين الطّبع والتّطبع :

أرجع كثير من الدّارسين والنّقّاد النّصّ إلى أمور تتعلق بالمبدع نفسه كالطّبع، وذكائه، وإلى أمور مكتسبة كالمران والحفظ والدّربة، أو حتّى بيئته الّتي تؤثر فيه، ويحاول التأثير فيها، وهذا ما يمكن جمعه في الطّبع والتّطبّع، فالطّبع هو ما يولد به الإنسان من استعداد، وملكة فطريين وموهبة، والتّطبّع هو ما يمكن أخذه وتعلمه بالدّربة، والمران، والحفظ، وتأثير المجتمع والبيئة، ومنهم من يرجعها إلى أمور وراثية.

ويذهب محمد مندور إلى أنّه لا يؤمن بشيء اسمه الإلهام والوحي والعبقرية في إنتاج النّصوص ويقر بعملية التّثقيف، وإبداع الصّناعة، والجهد وطول المران [25]، والشّعر "طبع، ودوافع، وإرادة، وجهد وصنعة" [26]، ونجد القاضي الجرجاني صاحب الوساطة يقول :"إنّ الشّعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطّبع والرّواية، والذّكاء، ثمّ تكون الدّربة مادة له، وقوة لكلّ واحد من أسبابه فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان " [27].

ويرى أبو حيّان التّوحيدي أنّ الأدب يقوم على ركيزتين أولاهما الطّبع ثمّ الجهد والدّراسة والمران فيقول: "وأمّا البيان والحصر فليس بينهما، وبين الخلق علاقة وإنّما يتبعان المزاج ويزيد فيهما وينقص الجهد والتّواني والطّلب والقصور" [28]، ويقول ابن طباطبا: "وللشّعر أدوات يجب إعدادها قبل مرامه، وتكلف نظمه فمن تقصّت عليه أداة من أدواته لم يكمل له ما بتكلّفه منه، وبأنّ الخلل فيما نظمه، ولحقته العيوب من كلّ جهة فمنها التّوسع في علم اللغة، والبراعة في فهم الإعراب، والرّواية لفنون الأدب، والمعرفة بأيام النّاس، وأنسابهم، ومناقبهم، والوقوف على مذاهب العرب" [29].

وتلعب الرّواية، وحفظ الأشعار إلى جانب الموهبة والطّبع والمران، والدّربة دورا هاما، يقول القاضي الجرجاني: "وملاك الرّواية الحفظ، وقد كانت العرب تروي، وتحفظ ويعرف بعضها برواية شعر بعض كما قيل أنّ زهير كان رواية أوس [بن حجر]، وأنّ الحطيئة رواية زهير [بن أبي سلمى]، وأنّ أبا ذؤيب رواية ساعد بن جؤية، فبلغ هؤلاء في الشّّعر حيث تراهم" [30].

ونجد أنّ ابن خلدون( ت808هـ) يقرّ بأنّ الملكة باختلاف أنواعها لا تحصل إلاّ بالدّربة، والحفظ، وكأنّنا به يهمل الطّبع والموهبة والاستعداد الفطري إذ يقول: "والملكات لا تحصل إلاّ بتكرار الأفعال، لأنّ الفعل يقع أولا، وتعود منه للذات صفة، ثمّ تتكرر فتكون حالا" - [31]، ويقول أيضا: "والملكات اللسانية كلّها إنّما تكتسب بالصّناعة، والارتياض" [32]، ويضيف في هذا الباب بأنّ "الملكة الشّعرية تنشأ بحفظ الشّعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والتّرسل" [33].

وهناك آراء وأقوال ترجع الإبداع إلى أمر الوراثة، ولو في جانب منه يقول ابن قتيبة: "ويقال أنّه لم يتصل الشّعر في ولد واحد من الفحول في الجاهلية ما اتّصل في ولد زهير ،وفي الإسلام ما اتّصل في ولد جرير" [34]، ويقول المبرّد: "وأعرق قوم كانوا في الشّعر آل حسان، فإنّهم يعتدون ستة في نسق كلّهم شاعر، وهم سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام وبعد هؤلاء في الوقت آل أبي حفصة فإنّهم كلّهم شاعر يتوارثونه كابر عن كابر" [35].

وأمر الوراثة لا يمكن أن نسلم به مطلقا فإنّه ليس من الحتمية أن يلد الشّاعر شاعرا، وإنّما أمر الوراثة هاهنا يحفظ ولا يقاس عليه، أمّا ردّ الإبداع والملكة إلى الدّربة، والمران فقط، وإهمال الطّبع والموهبة والاستعداد الفطري هو أمر يكاد يقترب من الانحراف عن طريق الصّواب لأنّ كثيرا من النّاس قديما وحديثا يحفظون الأشعار، ويقرؤون كثيرا من الرّوايات، ومع ذلك فهم عاجزون كلّ العجز على الإتيان بربع بيت، ومع ما قلناه فإنّ إبداع النّصّ يقف وراءه الطّبع والدّربة والمران ورواية الأشعار، أو ما شاكل النّصّ الّذي يراد إبداعه، ونضيف إلى كلّ هذا دور البيئة والمجتمع.

"فبذرة الإبداع موجودة في كلّ إنسان، ومتى تهيأت لها بيئة صالحة ترعاها، وتحنو عليها ،أو تمدّها بماء الحياة، وخصب التّربة نمت، وأينعت أزهارا ورياحين، وللإبداع بيئتان تؤثران على استنباته، ونموه، ورعايته، وهما البيئة الدّاخلية والخارجية" [36]، فالدّاخلية هي النّفس، وما حوت من طبع ومران ودربة ومزاج، والخارجية هي البيئة الاجتماعية والجغرافية وما تحمل من عادات وتقاليد وقيم، وموروثات تاريخية وثقافية، واجتماعية ودينية... .

ويقول الدّكتور عبد القادر هنّي: "إنّ هذا التّفاعل الحاصل بين البيئة والفرد، تترتب عنه نتائج ذات أهمية بالغة على مستوى الأعمال الأدبيّة بحكم التّأثير الّذي تحدثه البيئة في الطّبع الّذي يمثل عند النّقّاد الملكة المبدعة للعمل الفنّيّ، وفي هذا المجال أدرك بعض النّقّاد إدراكا واعيا نتائج تفاعل الشّخصية المبدعة مع البيئة" [37]، وكما يقول وليام جيمس Williams James : "إنّ للفرد ذوات اجتماعية" [38] "وكما أنّ شخصية الفرد هي نتاج ذلك التّفاعل القائم بين الفرد بتكوينه البيولوجي، واستعداداته ودوافعه وبين بيئته الاجتماعية من علاقات معقدة يؤثر فيها، وتؤثر فيه" [39].

"فالتّكيف الثّقافي [بين الفرد ومجتمعه] هو نتاج لكلّ خبرات الفرد، وهي الّتي اكتشفها نتيجة مشاركته في علاقات شخصية متينة مع الأعضاء الآخرين في الجماعات الّتي ينتمي إليها خاصة الجماعة الأولى "الأسرة" ،[وكذلك] إنّ الإنسان لا يتفاعل فقط مع الآخرين في الجماعة بل أيضا مع التّراث الاجتماعي Social héritage " [40].

ومن هذا كلّه نستنتج أنّ للبيئة دور مهم في إنتاج، وإبداع النّصّ، ويتأثر فيها المبدع، وتحكم سلوكاته وتعابيره ...، وما تحتويه البيئة من موروثات اجتماعية، ودينية، وتاريخية، وقيم وعادات وتقاليد، كلّها عوامل بيئية تؤثر في المبدع، وإبداعه إلى جانب الطّبع، والدّربة، والمران، وغيرها، ولا يمكن فصلها عن بعض.

إبداع النّصّ عند المحدثين :

في النّقد المعاصر ظهرت عدّة آراء إزاء النّصّ، ولعلّ من أكثرها صدى ذلك الرّأي الّذي يقرّ بحتمية التّناصّ في كلّ نصّ، أو أنّ أيّ نصّ ما هو إلاّ مجموع نصوص سابقة له أو متزامنة معه تتقاطع، وتتكاثف فيما بينها باختلاف الطّرق، والمناهج، والكيفيات لتصنع نصّا جديدا، وفي هذا الصدد يقول "ميشال فوكو": "لا وجود لما يتولد من ذاته بل من تواجد أصوات متراكمة متسلسلة، ومتتابعة" [41]، ويرى "تيري انجلتن" أنّ الأدب دوران بيئي [42]، "ومالرو[malraux] يرى أنّ الإنتاج الفنّيّ ليس وليد رؤية الفنان، لكنّه محصّلة النّصوص الأخرى" [43]، وميخائيل باختين يقول: "كلّ نصّ يقع عند المتلقي [هو] مجموعة من النّصوص الأخرى يعيد قراءتها، ويؤكدها ويكثّفها ويحوّلها، ويعمقها في نفس الوقت" [44]، ويعرف رولان بارت النّصّ بأنّه "نسيج من الاقتباسات، والإحالات، والأصداء من اللغات الثّقافية السّابقة، أو المعاصرة الّتي تخترقه بكامله" [45]، ويضيف رولان بارت قائلا: "ليس أن تعطي النّصّ معنّا مؤسّسا، أو حرا وإنّما أن تقدر من أي جمع pluriel يتكون" [46]، و"الكتابة هي إعادة إنتاج مستمرة، ودائمة بأشكال مختلفة لهذا الكلام الأوّل الّذي لم يكن مكرورا هو ما نطق به آدم كما ذهب إليه رولان بارت" [47]، وتقول جوليا كرستيفا: "إنّ كلّ نصّ هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكلّ نصّ هو تشرب، وتحويل نصوص أخرى" [48].

إن التناص هو تضمين نص في نص آخر، وهو أبسط تعريف له، أو هو استدعاؤه أو هو تفاعل خلاق بين النص المستحضِر والنص المستحضَر، فالنص ليس إلا توالد لنصوص سابقة [49]، و التناص شيء لا مناص منه، لأنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية، ومحتوياتهما، ومن تاريخه الشخصي أي من ذاكرته، فأساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم [50]، لأنه يستحيل وجود مبدع يكتب نصا أدبيا دون سابق تعامل معمق، ومكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو مجالات معينة [51]، فالشاعر يعيد إنتاج ما تقدمه وما عاصره من نصوص مكتوبة وغير مكتوبة ، أو ينتقي منها صورة أو موقفا دراميا أو تعبيرا ذا قوة رمزية [52].

هذا حشد من الأقوال والآراء "يرى فيها كثير من الدّارسين حتمية التّناص إزاء كلّ نصّ، ويعتبرونه قانون كلّ النّصوص جميعا، وأنّ "كلّ نصّ هو تناصّ" [53].

ونجد كعب بن زهير بن أبي سلمى الشّاعر المخضرم بين العصر الجاهلي والإسلامي يقول بيتا من الشّعر يصبّ معناه فيما قلناه سابقا :

ما أرانا نقول إلاّ رجيعا ومعادا من قولنا مكرورا [54]-

وإذا سلمنا بهذه الفرضيات والنّظريات بأنّ النّصّ ما هو إلاّ مجرى لا نبع له، وما هو إلاّ جداول تنحدر من أعلى إلى أسفل، فتلتقي فيما بينها لتشكّل هذا المجرى، ولربّما هذا المجرى سيجد طريقا آخر ليتّحد مع غيره ليشكّل وادا آخر لربّما، وإذا كان الأمر كذلك فبأيّ طريقة تظهر هذه النّصوص ،وتطفو إلى سطح البيان والتّعبير، والّتي كان قد التهمتها بالسّمع أو الحفظ فهل تأتي عن طريق الوعي أو اللاوعي، وسواء تعلق الأمر بالتّناص أو السّرقات أو الاقتباس والتّضمين ...، وإذا قبلنا فكرة أن المصطلحات النّقديّة سالفة الذّكر تتقاطع في كثير من النقاط فإننا نتعامل مع هاته المصطلحات على حدّ سواء في هذا الجانب المتعلق بقضية الوعي واللاوعي.

الوعي واللاوعي في تقاطع النّصوص :

يرى بعض النّقّاد والدّارسين على أنّ تقاطع النّصوص، أو حضور نصوص في نصّ آخر يتمّ عن طريق اللاوعي، ومنهم من يجعل التّناصّ على نوعين تناص بوعي، وتناص آخر بلا وعي.

ويرى الدّكتور محمد زكي العشماوي بأنّ عملية الإبداع الفنّيّ بجملتها لا تكون إلاّ من مشارف اللاوعي أو اللاشعور، أو عندما يلتقي الشّعور والوعي باللاشعور واللاوعي، ويأخذ الأوّل نصيبه من الثّاني [55]، وهو يشير إلى أنّ اللاوعي هو المسيطر في العملية الإبداعية في كلّ الفنون، وفي كلّ الحالات، وكأنّنا به يذهب إلى ما ذهب إليه سيقموند فرويد،"[فسيقموند فرويد عندما حلّل] الذّات المتكلّمة وجد في أساسها، أي هناك حيث ينبثق اللاوعي بدقّة الحكم الواعي، عملية النّفي Verneining الّتي ترجمت إلى الفرنسية Dénégation (إنكار)" [56]، فاللاوعي ينكر أو ينفي ما في الوعي، وبالتّالي يتحكم فيه، حتّى وإن بدا لنا بأنّ الأمر صادر من الوعي.

ويرى الدّكتور عبد الملك مرتاض بأنّ "التّناصّ هو الوقوع في حال تجعل المبدع يقتبس أو يضمّن ألفاظا، وأفكارا كان قد التهمها في وقت سابق ما دون وعي صريح بهذا الأخذ المتسلط عليه من مجاهل ذاكرته، ومتاهات وعيه" [57]،

أمّا جيرار جينيت فيؤكد على أنّ التّناصّ لا ينبع إلاّ من مشارف اللاوعي فعندما يتطرق إلى النّوع الأوّل من المتعاليات النّصّيّة، وهو التّناصّ intertextualité يقول عنه: "وضعته منذ بضع سنوات جوليا كريستيفا تحت اسم التّناصّ intertextualité ، وهذه التسمية تعزز نموذجنا الاصطلاحي، أمّا أنا أعرّفه بطريقة لا شكّ مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو عدّة نصوص بمعنى عن طريق الاستحضار Eidétiquement" [58]. والنص المتداخل هو نص يتسرب إلى داخل نص آخر ليجسد المدلولات سواء وعى الكاتب بذلك أم لم يع [59]، ففي عملية إنتاج النصوص يكون التناص غير واع [60] .

وإذا فتشنا في كتب علم النّفس وجدنا أنّ الاستحضار أو ما يعرف بالاستدعاء (Eidétiquement / Recall) "هو عبارة عن العملية التي بواسطتها تستثار خبرة سابقة يقصد [بها] استرجاع الخبرات القديمة عن طريق صور ذهنية images ، أو الألفاظ مع ما يصاحبها من الظّروف المكانية أو الزمنية، أو الانفعالية ،والفرق [بينه]، وبين الإدراك هو إحياء الخبرات السّابقة دون وجود مثيرات" [61]، عكس الإدراك الّذي يحتاج إلى مثيرات، ومن هذا وذاك فجيرار جينيت يذهب إلى أنّ حضور النّصوص يتمّ من مشارف اللاوعي.

وهناك من يقسم التّناصّ إلى نوعين تناص ظاهر، وآخر خفي، وعلى ضوء هذا يتحدد نوعه بين الوعي واللاوعي فيقول مفيد نجم: "كما أنّ التّناصّ ينقسم إلى نوعين أساسيين هما التّناصّ الظّاهر، ويدخل ضمنه الاقتباس والتّضمين، ويسمى أيضا الاقتباس الواعي أو الشعوري، لأنّ المؤلّف يكون واعيا به في حين أنّ التّناصّ الثّاني هو التّناصّ اللاشعوري [اللاواعي]، أو تناصّ الخفاء، وفيه يكون المؤلّف غير واع بحضور النص أو النّصوص الأخرى في نصّه الّذي يكتبه " [62].

ويقول د. خليل موسى: "ففي السّرقة تكون العملية قصدية واعية، بينما في التّناص تكون لا واعية" [63].

وكان علينا أن نتطرق إلى مدارس علم النّفس المتعاقبة، والمهيمنة في مجال علم النفس، وكيف نظرت قضية الشعور واللاشعور؟، وبعدها نحاول أن نوضح الرّؤى حول هذا الجانب بطرح الآراء ،والاتّجاهات لنخرج برأي لربّما يكون ملاصقا أو أكثر قربا من الحقيقة، ونقول هذا قبل أن ننطلق في المقارنة وبسط الآراء.

مدارس علم النّفس وقضية الوعي واللاوعي:

"حينما ظهر علم النّفس كنظام علمي مستقل في منتصف القرن التّاسع عشر كان يتصوّر أنّ الشّعور يتكون من عناصر بنائية، وهي مرتبطة ارتباطا قويا [...]، فالخبرة مكونة من جانب معرفي (إدراكي)، وجانب ذاتي (الانفعالات والمشاعر المصاحبة)، وكانت وظيفة علم النّفس اكتشاف العناصر الأساسية في الشّعور" [64]، "فكان علم النّفس يدرس الحالات العقلية أي اكتشاف مضمون، ومحتوى الخبرة بمعنى اكتشاف بنية أو تركيب الخبرة والشّعور، ولذلك كثيرا ما كان يشار إلى علم النّفس بأنّه "الكيمياء العقلية"، أو "السيكولوجية التّحليلية"، وهذه [المدرسة] هي المدرسة البنيوية أو التّركيبية أو ما يسمّى سيكولوجية الخبرة، ولتأكيد هذه المدرسة على الارتباط بين العناصر البنائية، وتسمى أحيانا المدرسة الارتباطية" [65]، ومن أشهر علماء هذه المدرسة هو تيتشنر E. B. Tichener، وهو الّذي سمّاها بهذا الاسم Structuralisme والواضح أنّ المدرسة البنيوية أو الارتباطية قد انحدرت من القرنين 17- 18 حتّى سيطرت على نظرية علم النّفس في القرن التّاسع عشر" [66]، " وتزعم هذه المدرسة البنيوية "ويلهم فونت" Wilhem Wundt (1832- 1920) أسّس أوّل معمل لعلم النّفس، وكان ذلك في جامعة لايبزج بألمانيا عام 1879 [...]، لاكتشاف العناصر الحسّية في ارتباطها، ومركباتها لقد كان موضوع علم النّفس الاستبطاني [قبل إنشاء المخبر التّجريبي] هو خبرات الشّعور، ومحتواه". [67]

بعد هذا بحوالي عشرين سنة أي في عام 1920 تكونت مدرسة جديدة في جنوب ألمانيا لم تكن راضية على تأكيد البنيويين على تركيبات الحالة العقلية، أو تحليل الخبرة إلى عناصر بسيطة فهي تؤكد عملية الإحساس، وليس في الإحساسات، وتؤكد عملية التّفكير، وليست الأفكار بمعنى أنّها تؤكد النشاط العقلي، وليس محتواه من أفكار، أي أنّ هذه المدرسة الجديدة تؤكد في دراستها للشّعور أهمية الوظيفة أكثر من تأييدها مضمون، ومحتوى الشّعور أو الخبرة بدلا من سؤال البنيويين ما هو الشّعور؟، أو ما هي مكونات الشّعور؟، فإنّ أنصار المدرسة الجديدة يسألون ما هي وظيفة الشّعور؟، ولهذا أطلق عليها اسم المدرسة الوظيفية، أو "علم نفس العمليات العقلية" [68].

وهكذا ظهر علم النّفس الوظيفي كشقّ متمّم لعلم النّفس البنيوي، ومن أشهر علماء هذه المدرسة، برنتانو Brentano، وليام جيمس William James، وجيمس أنجيل James Angell وجون ديوي John Dewey. [69]

ومع ظهور المدرسة الوظيفية ظهرت مدرسة التّحليل النّفسي، وأصحاب هذه الأخيرة يطلقون على حركة التّحليل النّفسي اسم سيكولوجية الوجدان، أي سيكولوجية المشاعر، والعاطفة وتعلن التّجديف ضدّ تيار المدارس السّابقة الّتي تؤكد الاتّجاه العقلي والجسمي [70]، فنجد هذه المدرسة وجهت اهتمامها، وجهودها إلى فهم، ووصف اللاشعور، وترى أنّ كلّ سلوك وراءه دافع لا شعوري حتّى في الأفعال اللاإرادية الّتي تبدو غير مقصودة كفلتات اللسان وزلات القلم والنّسيان [71].

وكانت مفاهيم هذه المدرسة والّتي كان من أبرز مؤسسيها سيقموند فرويد Sigmend Freud (1939-1856) ،وكارل يونج Carl Jung (1961-1875)، ألفريد أدلر Alfred Adler، فروم Fromm، سوليفان Sulivan، ورايك Reick، تهتم في مجملها باللاشعور أو اللاوعي [72]، وأخذ كلّ واحد من هؤلاء فيما بعد طريقه ليؤسّس مدرسة للتّحليل النّفسي الخاصّ به وبمنهج خاص ومع هذا بقيت كلّ المدارس تركز اهتمامها على اللاشعور [73].

ويرى "فرويد" أنّ هناك ثلاث مستويات للحياة النّفسية، المستوى الشّعوري وهو الانتقال بالحاضر القريب والوعي به، ويتضمن عمليات التّفكير، وحلّ المشكلات، واتّخاذ القرارات، المستوى الثّاني: هامش الشّعور ويحتوي على الذّكريات، والخبرات ولكنّ المستوى الإرادي الّذي يمكن للشّخص استرجاعها في أيّ وقت" [74]، مستوى اللاشعور، وهو يشغل أكبر حيّز في حياة الفرد النّفسية، وتحتوي على نزعات الهو [id]، والذّكريات المبعدة، والرّغبات غير المقبولة اجتماعية ،والمخاوف وغيرها [75].

بل حتّى إنّ سيقموند فرويد عندما يقسّم النّفس إلى ثلاث أقسام، فإنّه يجعل اللاشعور هو المسيطر على كلّ الأنواع فيقول عن الأنواع الثّلاثة ما يلي:

1- الهو، id، وهو مخزن للدوافع، واستجابات الفطرية المشبّعة بهذه الدوافع، وهو لا شعوري ،لا منطقي، لا خلقي، ولا يقيم وزنا للمثل ،والمعايير، يتبع مبدأ اللذة pleasure principle .

2- الأنا والذّات ego، وهي شعورية ،وتعتبر حلقة اتّصال بين حياة الواقع واللاشعور، وهي منطقية خلقية تهتم بالمعايير الاجتماعية، وتخضع لمبدأ الواقع reality principle، والأنا تتكون تدريجيا من تفاعل الفرد مع بيئته، وتتأثر في تكوينها بالخبرات والاتّجاهات والعادات الّتي يتعلّمها الفرد.

3- الأنا العليا super ego، وهي تنمو مع الشّخص، وتعتمد في هذا النّمو على تقمص السّلطة، وخاصّة الوالدية، ونوع التّهم الّذي يتعرض له الفرد، وهي تعمل على مستوى لا شعوري، وتتمثل السّلطة الوالدية، والمعايير والقيّم السّائدة في المجتمع، أي أنّها الضّمير اللاشعوري الّذي يحكم على سلوك الفرد، وسلوك الآخرين من حيث قيمته الأخلاقية، ومن حيث قبوله اجتماعيا [76].

وبعد هذا العرض الموجز، نلاحظ أنّ المدارس النّفسية المتعاقبة نظرت في أوّل الأمر إلى الشّعور على أنّه عامل أساسي ومهيمن في سلوك الشّخصية، وهذا مع المدرسة البنيوية النّفسية، ثمّ نظرت إلى وظيفة هذا الشّعور، وهذا ما تمثل في رؤية المدرسة الوظيفية، وأخيرا مع مدرسة التّحليل النّفسي ركزت على اللاشعور، ونظرت إليه على أنّه العامل المهيمن في كلّ ما يخصّ الإنسان من سلوك، وأقوال وتفكير وإدراك وإبداع.

"وقد اندفع بلوم [هارولدbloom harold ] تحت ضغط الأفكار الّتي روّجتها مدرسة التّحليل النّفسي بريادة فرويد في بداية القرن العشرين إلى إعادة كتابة التّاريخ الأدبيّ من خلال عقدة أوديب، حيث يعتقد أنّ الشّعراء يعيشون تحت هاجس القلق المستمر إزاء شاعر عظيم سبقهم، سجلت قصائده حضورا تأثيريا لديهم، فيرى أنّ القصائد الّتي يكتبونها ليست إلاّ محاولة الخلاص من هذا التّأثير، وإزاحة ظلّ الشّاعر العظيم، أو التّنافس أو التّماهي معه مثلما يفعل الأبناء الّذين تطغى في لاوعيهم عقدة أوديب إزاء آبائهم، ومن هذا المنطلق يمكن قراءة القصائد كلّها باعتبارها إعادة كتابة لقصائد أخرى" [77]، "إلاّ أنّ المبادئ الّتي يعالجها [بلوم] في مجموعة من الكتب بداية بـ "هاجس التّأثر" The anxiety of influence (1973)، و"خريطة القراءة المخطئة" a map of misreading (1975) على قدر كبير من الأهمية ،وتحتوي على إمكانيات كبيرة للتطوّر إذ أنّ نظرته للشّعر ما بين نصوصية أو تناصية intertextual " [78] .

فهو يقول بكلّ صراحة: "أنّ ليس هناك نصوص، بل فقط علاقات بين نصوص" [79]، "ويتمثل الحلّ الأمثل في رأي بلوم في قولنا أنّ معنى القصيدة لن يكون إلاّ قصيدة أخرى لم يطّلع عليها الشّاعر" [80].

وإذا ما تتبعنا أثر الحفظ للنّصوص، وأثرها على العملية الإبداعية سنجد كثيرا من الأدلة تبرهن على أهمية ذلك في العملية الإبداعية، يقول سبندر Spender: "إنّ أهمّ ما يميّز الشّاعر عن سائر الشّعراء نوع ذاكرته، والطّريقة الّتي يستخدمها بها، وثمّة نوعان من الذّاكرة، نوع يمكن تسميّته بالذّاكرة الصّريحة المشعور بها، والآخر هو الذّاكرة الخفيّة واللاشعورية، فأمّا الذّاكرة الصّريحة الشّعورية فهي ذاكرة الانطباعات الّتي صيغت في الذّهن على هيئة أفكار وقت تلقيها، وأمّا الذّاكرة الخفيّة اللاشعورية فهي ذاكرة الانطباعات الّتي لم نصفها شعوريا وقت تلقينا لها، وبالتّالي فإنّ تذكرها يبدو وكأنّه خلق لها من جديد، أو كأنّه التقاء بها لأوّل مرة" [81].

"واستدعاء الإنسان لما سبق أن تعلّمه دليل على أنّ العقل قد احتفظ بأثر ما تعلّمه، ولكن يلاحظ أنّنا ننسى بمضيّ الزّمن ما تعلّمناه، أو جزء كبيرا منه، ولكن على كلّ حال يظلّ أثر الحفظ باقيا" [82].

وهناك نظرية forme theory لـ" منسكي" الّتي يقترح فيها أنّ معرفتنا مختزنة في الذّاكرة على شكل بنيات معطاة ممثلة لأوضاع متكررة، نستقي منها عند الاحتياج إليها لتتلاءم مع الأوضاع الجديدة الّتي تواجهنا، فغرض الغزل مثلا له إطاره، وهو وصف الحبيب يجعلنا عند نظم القصيدة نستدعي إنتاج الآخرين من خلال هذا الإطار الّذي نحمله [83]، ونجد أنّ علماء النفس ينظرون إلى العقل الإنساني على أنّه مكون من عدّة ملكات faculties ، ويمكن تقوية هذه الملكات عن طريق التّدريب للفرد فيها في أيّ ناحية من نّواحي الملكة، ومن أمثلة هذه الملكة الذّاكرة، التّفكير، التّخيّل، التّصوّر...، أو ما يعرف في علم النّفس باسم "نظريات الملكات والتّدريب الشّكلي theory of faculty and formal discipline .

غير أنّ بعض علماء النّفس في العصر الحديث مثل ثورنديك وود وورث Wood Worth شكّكوا في هذه النّظرية، وقال: إنّ أثر التّدريب خاصّ، وليس عام [84]، ونجد كثيرا من الأقوال تؤيد هذه النّظرية، وأنّ تقوية الملكة يكون من أثر التّدريب والحفظ من جنس الملكة، يقول الأصمعي: "لا يصير الشّاعر في قرض الشّعر فحلا حتّى يروي أشعار العرب، ويسمع الأخبار ويعرف المعاني، وتدور مسامعه الألفاظ" [85]، "وخالد بن عبد الله القسري قال: "حفّظني أبي ألف خطبة ثمّ قال لي: تناسها، فتناسيتها، فلم أرد بعد ذلك شيئا من الكلام إلاّ سهل عليّ"، فكان حفظه لتلك الخطب رياضة لفهمه، وتهذيبا لطبعه، وتلقيحا لذهنه، ومادة لفصاحته ،وسببا لبلاغته ولسنه وخطابته" [86].

وها هو ابن خلدون ينصح الشّعراء قبل أن يكتبوا الشّعر فيقول لهم: "الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتّى تنشأ في النّفس ملكة ينسج على منوالها" [87]، وعلى درب ابن خلدون سار الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط" حيث يقول: "فكلّ من التّذكّر والتّصوّر يسمّى قوّة سفلى والتّصديق أو الحكم الّذي أتى به البرهان نسمّيه قوّة عليا [...]، وما قيمة الرّجل الّذي يحفظ الشّعر والنّثر والتّاريخ، أو اللغات إلاّ كبقية الدّواب تحمل صور المتاحف [...]، نعم لهذا وأمثاله فائدة ما هو أنّه يحفظ ليستنتج غيره من محفوظه [...]، وإذا ذكر الشّاب فائدة علمية وجب علينا أن نحرص على أن نقتبس بيتا من الشّعر أو حادثة من التّاريخ أو الخرافات، فنحن بذلك مرّنا القوّة الحاكمة العليا مع القوّة السّفلى وهي الذّاكرة" [88]، ويشير "بياجيه" و"انهلدر" إلى أنّ ما يخزن في الذّاكرة يمكن أن ينقل أثناء عملية الاسترجاع [89]، ويضيف بياجيه وانهلدر أن أثر المحفوظ، وطفوه فيما بعد يتعلق بالسّن، فإنّ أحسن سنّ يمكنه فيه رسوخ المحفوظ، وظهوره فيما بعد هو سنّ الطفولة، وفي فترة معينة من النّمو [90]. وكلما تقدم الإنسان في السن تنقص هذه الخاصية ، ويبقى إدراكها هو المسيطر.

"ويشير "تلفينغ" Tulvingإلى منحنى آخر لعملية الاسترجاع يرتبط بالبيئة المعرفية الّتي توجد أثناء عملية الاسترجاع" [91]، وإن كنّا نجد بعض العلماء والباحثين لا يتكلمون فقط عن اللاوعي عند الشّخص بنفسه، وإنّما لاوعي متعلق بالمجتمع، "فإنّ المعرفة المكتسبة عن الوالدين، وعن الغير هي موروث قد تكون في العقل الإنساني عن طريق ما اختزن وادّخر في اللاوعي أو في اللاشعور الجمعي من تجارب الماضي" [92]، "وقد كشف يونغ Young عن أهمية اللاشعور الجمعي، وأثره في تكوين الشّخصية الذّاتية الحاضرة، فالإنسان الحديث حسب هذه النّظرية قد يشكّل الرّاهن بفعل الخبرات المتراكمة للأجيال الماضية، والّتي تمتدّ بعيدا على آماد ساحقة حيث الأصول المجهولة " [93].

وبعد هذا يمكن القول أنّ ليس كلّ من يحفظ الشّعر أو يطالع الرّوايات، أو يتمرن على ملكة معينة سيبدع فيها بالضرورة، وينسج على منوالها، وهذا يتوقف أيضا على الطّبع والموهبة والاستعداد الفطري، والدّربة، والمران والمزاج، والبيئة أيضا، وما أطلقه كانط على من يحفظون الشّعر ولا ينسجون على منواله بالدّواب فلفظ الدّواب لفظ لا يناسب هذا المقام ولا مقام آخر، فكثير من النّاس يحفظون ولا يبدعون ولا يمكن نعتهم بالدّواب. فالإبداع لا يتعلق بالحفظ فقط.

وكما رأينا فهذه أقوال وأراء ونظريات تؤكد أنّ عملية الإبداع أو خلق نصّ هو نتيجة تقاطع نصوص تطفو من مخزن المبدع عن طريق اللاوعي.

نقد واستنتاجات:

إذا كان العلماء والدّارسون يرون أنّ النّصّ يبدع من نصوص سابقة تظهر من مشارف اللاوعي فإذا قفزنا إلى ضفّة أخرى (لتعدّد الضّفاف) نجد من العلماء، والمهتمين بأنّ هذا الرّأي غير صائب، ولا يمكن حصر كلّ عملية إبداعية بصفة عامة في مسألة اللاوعي، "فكيوبي Kubie يستبعد اللاشعور من عملية الإبداع، ويشير إلى أنّ اللاشعور إذا كان يقوم بأيّ دور فهو تكفين الإبداع وتغطيته" [94]، وكما رأينا عند الدّارسين الّذين أكدوا أنّ التّناصّ يكون من اللاوعي، والسّرقة والاقتباس والتّضمين يكون من مشارف الوعي، حقيقة يمكن أن يكون هذا لكنّ التّعميم هنا أضر بالمقصود، فالتّناصّ قد يكون واعيا، والسّرقة والاقتباس والتّضمين قد يكون لا واعيا، وعندما نقول السّرقة تكون لا واعية فنحن نقصد أن يتهم زورا وبهتانا بالسّرقة والاقتباس والتّضمين من باب توارد الخواطر، ووجدنا أن ابن قيّم الجوزية( ت751هـ) يحرّم الاقتباس من القرآن ويعرّف الخطيب القزويني (ت 739هـ)الاقتباس فيقول: "فهو أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنّه منه" [95]. فابن القيم يحرمه نثرا وشعرا إذ يقول: "وقد أودعت جماعة من الشّعراء، وجلة من الكتاب الفضلاء في أشعارهم ورسائلهم، وأنواع فصاحتهم آيات من كتاب الله تعالى، وسمّوه اقتباسا من القرآن، وهذا مما قد نهى عنه جلّ العلماء، وأفاضل الفقهاء، الأتقياء، وكرهوا أن يضمّن كلام الله تعالى شيئا من ذلك، أو يستشهد به في واقعة من الوقائع" [96] -، والمفارقة أنه يقتبس في الكتاب الذي حرم فيه الاقتباس، وخاصة في مقدمة هذا الكتاب في أكثر من عشر مواضع اقتبس فيها من القرآن، فلو كان حيا- رحمه الله تعالى- وسألناه على هذا التناقض فما كان له أن يقول إلاّ أنّ ذلك كان من مشارف اللاوعي.

ويقول عبد السّتار جبر الأسدي :" ليس التّناصّ لاواعيا فقط بل هناك قسم ذو طبيعة قصدية واعية" [97]، فهو يؤكد على أنّ تقاطع النّصوص وبروزها على لسان بيان المبدع لا يمكن إدراجه في خانة اللاوعي، فعلى الأقلّ من بعض هذه النّصوص، المبدع يعرف منبعها، ويكون في وعي بأنّها ممّا حفظها أو قرأها أو سمعها، وله أن ينسى من أين له ذلك.

"فالنّصّ في رأي "ليتش" [ leitch] ليس ذاتا مستقلة أو مادة موحدة، ولكنه سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى، ونظامه اللغوي مع قواعده ومعجمه جميعها تسحب إليها كما من الآثار والمقتطفات من التّاريخ، ولهذا فإنّ النّصّ يشبه في معطاه معطى جيش خلاص ثقافي بمجموعات لا تحصى من الأفكار، والمعتقدات المستعارة شعوريا أو لا شعوريا يبرز فيه الموروث في حالة تهيّج، وكلّ نصّ متداخل intertext يلتقي فيه الزّمن بكلّ أبعاده" [98]، وعلى هذا فإنّ "ليتش" يقرّ بأنّ طفو الأفكار يمكن أن يكون من مشارف اللاوعي أو من الوعي،والفيلسوف جون بول سارتر يضع جزء من عملية الخلق الفنّيّ تنبع من الجانب الواعي الإرادي [99]، وإن كان سارتر أعطى للجانب الواعي حق ّتخيّل الموقف وبعثه وإثارته فإنّ كولردج يرى بأنّ الإرادة الواعية تقوم بجانب آخر هو التّحكم في العاطفة المنطلقة بلا قيد أو شرط عن طريق فرض نظام عليها [100].

ومن هذا وذاك نرى بأنّ الوعي له دوره في الإبداع الفنّيّ والأدبيّ، "غير أنّ بعض النّقّاد المعاصرين يعتبرون أنّ الإبداع شرط التّناصّ لكونه لاوعيا منطلقين من مقولات مدرسة التّحليل النّفسي الّتي تؤكد أنّ اللاوعي هو منبع الإبداع وفي هذه الحالة تسقط صفة الإبداع من التّناصّ الواعي القصدي الذي قد يبتكر أشكالا جديدة عبر آلياته المختلفة، وتقنياتها في التّوازي أو التّقاطع مع شبكة النّصوص الغائبة" [101]، "وإذا كان كلّ نصّ هو تناصّ كما يجزم الكثير من الباحثين فهل سيكون الأدب أو كلّ نصّ إبداعيا"؟ [102]، فبطبيعة الحال ستكون النّصوص كلّها إعادة لبعضها، ولا تأخذ اسم الإبداع لدورانها في حلقة دائمة، ومستمرة لأنّ كلّ نصّ هو مجموعة نصوص، وهذه النّصوص تطفو على سطح نصّ جديد (لربّما) من اللاوعي، فإنّ صفة الإبداع تركض بعيدا عن هذا النصّ لأنّه في الأخير ترديد وصدى لأصوات سابقة.

يقول الدّكتور محمد طه حسين: "التّناصّ له ما يبرره شريطة أن لا يقع وقوعا تاما، ففي هذه الحالة يفقد النّصّ رؤيته الإبداعية والجمالية، ويظلّ النّصّ اتباعيا مكررا يفقد مصداقيته كنصّ [يجب أن يكون] له قيمته الإبداعية والجمالية" [103]، فالإبداع في نظر "لالاند" "هو إنتاج شيء ما على أن يكون هذا الشّيء جديدا في صياغته وإذا كانت عناصره موجودة من قبل" [104].

ويقول "سميث" (1959): "إنّ العملية الإبداعية هي التّعبير عن إيجاد علاقات بين الأشياء لم يسبق أن قيل أن بينها علاقات ويرى "هانل" (1962) أنّ الإبداع هو القدرة على تكوين تركيبات أو تنظيمات جيدة" [105]، ويقول الدّكتور عبد الإله بن إبراهيم الحيزان: "التّفكير الإبداعي هو العملية الذّهنية الّتي تستخدمها للوصول إلى الأفكار، والرؤى الجديدة أو الّتي تؤدي إلى الدّمج والتّألّيف بين الأفكار أو الأشياء الّتي تعتبر سابقا أنها غير مترابطة" [106].

وإذا ما نظرنا فيما سبق وجدنا أنّه يوجد اتّفاق عام أنّ الإبداع هو عملية خلق جديدة، ويجب أن يكون أصيلا فبدون الأصالة والحداثة لا يوجد إبداع، فإنّ ذلك يتضمنه أيضا إنتاج الأفكار القديمة في ارتباطات جديدة فالرّبط بين الأصالة والحداثة يتطلب لاوعي في جوانب ووعيا في جوانب أخرى، والمحاولة والسّعي لإيجاد روابط بين أشياء سابقة يدخل الوعي كجانب أساسي ولو بجزء بسيط، وعلى هذا يبنى الإبداع، وليس على اللاوعي فقط ويقول د.رشيد بن مالك:"إنّ الادّعاء القائم على أنّ التّناصّ موجود بين النّصوص في حين يتعلق الأمر ببنيات دلالية وتركيبة مشتركة بين خطابات من جنس واحد يؤدي إلى إلغاء وجود الخطابات الاجتماعية" [107]، ومن هنا إذا سلّمنا بتقاطع النّصوص في النّصّ اللاحق فسيصبح الخطاب الاجتماعي غير موجود لأنّ النّصّ يبنى على ما سبقه من نصوص.

وإذا كان جراهام والاس G. Wallas (1962) من الأوائل الّذين وصفوا، وتطرقوا إلى العملية الإبداعية وقال عنها إنّها تمرّ بأربع مراحل أساسية وهي:

1- الإعداد: préparations.

2- الكمون:insulations .

3- الإشراف:.illuminations

4- التّحقيق: .vérifications

ففي مرحلة الكمون نجد أنها تتضمن هضما أو تمثيلا عقليا شعوريا ولا شعوريا، وامتصاصا لكلّ المعلومات المكتسبة الملائمة [108]، فمرحلة الكمون هي من أهم مراحل الإبداع، وفيها يقرّ "والاس" أنّ المبدع يجلب من المعارف، والخبرات المكتسبة وهذا من مشارف الوعي واللاوعي، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال إنكار أنّ النّصوص السّابقة تتشكل بتقاطعها بطرق وكيفيات مختلفة لتصنع نصّا جديدا، وصاحب النّصّ له نصيب في إنجاز العملية وفق طبعه فأين نسبة طبعه في العملية الإبداعية؟، ألا يمكن أن تأخذ ولو نسبة بسيطة، فهو من سيقوم باستخراج تلك النّصوص، وهو من يربط بينها وفق ارتباطات معينة، وهنا لا يمكن إهمال الإبداع الشّخصي الذي ليس له أيّ نصّ يقف وراءه هذا من جهة، ومن جهة أخرى ما كان لأيّ إنسان أن ينسى جميع النّصوص الّتي تشكّل نصّه، ومن الطّبيعي أن يتذكّر على الأقلّ نصّا أو مقطعا على أنّه من حفظه، أو أنّه ممّا سمع أو علق بذهنه، وله أن ينسى مصدره أو قائله.

فالشّيخ محمد مناشو التّونسي عندما كتب قصة "فكاهة في مجلس القضاء"، والّتي نشرت سنة 1972، وهي مطابقة لقصّة "التّوبة" للكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي، وهما متطابقتان تماما، وليس هناك أيّ تغيير ماعدا العنوان، وعشر كلمات فقط على أكثر تقدير وعندما سئل عن هذا قال: إنّها كانت مما علق في ذهنه [109]، فإن كان الأمر كذلك، وعلقت قصّة كاملة بهذا القدر من التّطابق فكيف لا يعلق بذهنه جملة من كلمتين وهي أنّها من حفظه، أو سمعها أو قرأها عن فلان إن كان نسيّ اسمه.

وأمر آخر أغفله المنظّرون في قضية اللاوعي، وهي قضية توارد الخواطر حيث يمكن أن تأتي المعاني، ولربّما حتّى الألفاظ والمعاني متطابقة دون أن يسمع الشّاعر صاحبه أو يقرأ عنه وما يقال عن الشّاعر يقال عن سواه وهذا ما قاله، ابن رشيق وأبو هلال العسكري، وابن الأثير والخطيب القز ويني، وحازم الأندلسي وأقرّ به عمرو بن العلاء والمتنبّي، فعند تطابق الأقوال لفظا، ومعنى في الأشعار، أو النّثر أو كان هناك نوع من تطابق المعاني فلا نتسرع بالحكم بالسّرقة أو أن هذا النص مبدع من نصوص سابقة، فقد يكون المتّهم بها بريئا منها براءة الذئب من دمّ يوسف، وهذا التّطابق تمّ وفق توارد الخواطر، والأفكار، ونورد أقوالا، وشواهد لتبرير هذا.

يقول حازم القرطاجني (ت 684هـ): "إنّ من المعاني ما يوجد مرتسما في كلّ فكر، ومتصوّرا في كلّ خاطر، ومنها ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض" [110] ،ويقول ابن الأثير(ت637هـ) "يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم سرقة" [111]، وابن رشيق بعد أن سرد أنواع السّرقات وقف على أمر توارد الخواطر، وأقربها [112]، وكذلك الخطيب القزويني(ت739هـ) بعد أن عدّ أنواع السّرقة تحت نوعي الظّاهر، وغير الظّاهر يختمها بقوله: "هذا كلّه إذا علم أنّ الثّاني أخذ من الأوّل، وهذا لا يعلم إلاّ بأنّه كان يحفظ قول الأوّل حيث نظم قوله أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذ منه بجواز أن يكون الاتّفاق من قبيل توارد الخواطر" [113].

"وسئل أبو عمرو بن العلاء (ت154هـ): أرأيت الشّاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، ولم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع شعره، قال: تلك عقول الرّجال توافت على ألسنتها" [114]-، "وسئل أبو الطّيّب [المتنبي] (ت354هـ)عن مثل ذلك فقال: الشّعر جادة وربّما وقع الحافر موضع الحافر" [115]، ويقول أبو هلال العسكري (ت395هـ): "وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدّم من غير أن يلمّ به ولكن كما وقع للأوّل وقع للآخر، وهذا أمر عرفته من نفسي فلست أمتري فيه، وذلك أنّي عملت شيئا في صفة النّساء.

"سفرن بدورا وانتقبن أهلة"

وظننت أنّي سبقت إلى جمع هذين التّشبيهين في نصف بيت إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين، فكثر تعجبي، وعزمت على أن لا أحكم على المتأخّر بالسّرق من المتقدّم حكما حتما" [116].

ونرى بأنّ ما عمله أبو هلال العسكري في صفة النّساء "سفرن بدورا وانتقبن أهلة" يقترب كثيرا من قول أبي تمّام(ت231هـ):

تريك هلالا أو يقال لها أسفري فتسفر شمسا أو يقال تنقبي [117]

وتوارد الخواطر إلهامي بدون سبب معين، وقد يكون مرده إلى البيئة الواحدة الّتي تؤثر على كلّ من يعيش فيها بنفس التّأثير، فتأتي الأفكار، والخواطر متشابهة، أو متقاربة، وفي هذا الصدد يقول أبو هلال العسكري: "وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، وفي أرض واحدة فإنّ خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم، وشمائلهم تكون متضارعة" [118]، ضف إلى ذلك ما تنطوي عليه البيئة من وسائل تأثير كطرق التّفكير، ومناهج التّعليم الواحدة، ومصادر التّلقي المشتركة، والمبادئ المتّحدة، والأهداف الواحدة، ومناظر، وعادات، وتاريخ، وقيّم...

وإذا ما سلمنا بأمر توارد الخواطر، والأفكار فإنّنا سنقع في أمر آخر، وهو أنّ توارد الخواطر سيفتح الباب أمام السّارق الأدبيّ فيقول: خطر على بالي كما خطر على خطر على بال الأوّل، وهذا ما أشار إليه الجاحظ إذ يقول: "ولا يكون أحد منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه، أو لعلّه يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قط، وقال إنّه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأوّل" [119].

وهنا سيكون من الخطأ الاتهام زورا بالسّرقة أو أن هذا النّصّ مع ذاك متقاطعين، أو أنّه صدى للآخر مع الاعتراف بأنّ هذا الأمر قليل الحدوث.

ومما يمكن إضافته هاهنا ما قاله الدّكتور عبد القادر هنّي حيث يقول: " إنّ جمهور المبدع في حدّ ذاته أصبح متنوعا من حيث ثقافته، ومن حيث مراتبه الاجتماعية الأمر الذي اقتضى تنوع خطاباته من حيث أسلوبها، ومن حيث محتواها تبعا لتنوع هذا الجمهور، وهو ما استوجب تنوعا في ثقافته " [120]، ومن هذا القول ومن الملاحظ أيضا أنّ المبدع يعلم مسبقا أنه سيخاطب جمهورا واسعا متعدّد المستويات أفقيا وعموديا حسب السّنّ والثّقافة، والاتّجاهات المختلفة، والمستويات الاجتماعية...، فهو يريد مخاطبة الكلّ طبعا، حيث أصبح المتلقي يساهم في إنتاج النّصّ والعمل الأدبيّ من قبل ومن بعد، ومن هنا وجب عليه أن يضمّن المبدع في نصّه عدّة نصوص أو على الأقل يكيّف وينوّع نصوصا وأسماء، ورموزا ليؤثر على الجمهور العريض المتنوع، وليمنح لكلّ شريحة من جمهور المتلقين رمزه أو نصّه أو إيحاء له، ليسقط النّصّ ككلّ وفق تأويل يتناسب مع توجهاته وأفق انتظاره، فيأخذ النّصّ عدّة أوجه لتأويله، وهذا هو أحد أهمّ أوجه الجماليات للنّصّ، وفي الأخير سنحكم على هذا الكاتب أنّ نصّه ما هو إلاّ نصوص سابقة طفت إلى سطح تعبيره من باب اللاوعي، والعكس أنّ الكاتب ضمّنها، وهو في وعي ليؤثر في جمهوره المتعدّد أفقيا وعموديا.

فالتّناصّ [وما يتفق مع السّرقات والاقتباس والتّضمين...] هو مجموعة من آليات الإنتاج الكتابي لنصّ ما تحصل بصورة واعية أو لا واعية بتفاعله مع نصوص سابقة عليه أو متزامنة معه [121]، وأقسام التناص بحسب القصد وعدمه نوعان: الأول غير مقصود، وغير واضح، كما أنه لازم للنص أما الثاني فهو قصدي إذ يعي فيه المبدع ما يفعل حيث يدخل في معارضة أو حيث ينقل صورة أو تعبيرا أو موقفا ونحو ذلك من المعطيات الثقافية بأي شكل من الأشكال [122].

فما يرد في القسم الأول فهو السمة الغالبة في النصوص، والتناص فهو ليس إلا تضمينات مجهولة الصاحب لأنها ترد بصورة تلقائية أو لا واعية ...، وهذا لا يخلو منه شعر شاعر أو نص كاتب، لأن كل نص مبني على تراث ضخم من النصوص تغلغلت في بنية اللغة التاريخية، وتغلغلها في رصيد المبدع الذي لابد أن يمر بمرحلة أولية من القراءة والحفظ والمحاكاة، وهذا يتجاوز الوعي إلى حيز اللاوعي عن طريق النسيان القسري أو الوظيفي [123]، أما القسم الثاني فهو المقصود، ويكون المبدع فيه واعيا ما يستحضر من النصوص، وما يصوغ من معطيات ثقافية، وما يذكر من أعلام وغير ذلك [124].

ولكن لا نعمم ولا نجزم، لأنّ الأمر هاهنا يتعلق بالجانب النّفسي للإنسان، وهو جانب معقد جدا لا يمكن التّكهن به أو بناء نظرية لا تقبل الجدال والنّقاش، وتأكيدا لما سبق نستشهد بقول نلمس فيه كثيرا من مطابقة لوجه الحقيقة وهو قول الدّكتور عبد القادر هنّي إذ قال: " إنّ المبدع تحت ضغط العمل [الأدبيّ المنجز] الّذي ينهمر عليه انهمارا يكون في حالة بين الوعي واللاوعي فيختلط عليه الأمر فلا يدري على وجه التّحديد مصدر عمله " [125]، فأثناء العملية لا يدري مصدر عمله، ويكون بين حالتي الوعي واللاوعي، ولكن بعد العملية الإبداعية لو ذكّر أو تذكّر عمله لعلم أن هذا كان من محفوظه، وهذا من إبداعه والأكثر منه كان من محفوظه، وجزء منها يراها أنّها من إبداعه بالرّغم أنّها من مخزونه الّذي التهمه سابقا، ولكن يهيأ له أنّه هو مبدعها وصاحبها، وكأنّه هو من قالها أوّل مرة، ولمس جيلفورد Gulford جانبا من حقيقة ممّا نبحث عنه حينما قال (1960): "لقد وقع معظم السيكولوجيين ضحايا خطأ منطقي بافتراض أنّ الاسم الواحد يعني عملية واحدة، إنّه يبدو جليا أنّه ليس هناك عملية إبداع واحدة بل ربّما توجد عمليات كثيرة عددها مثل عدد النّاس المبدعين" [126]، وتختلف عملية الإبداع من شخص إلى آخر فهذا يبدع من اللاوعي والآخر بوعي وثالث بمزيج بين هذا وذاك، وتختلف نسبة هذا عن ذاك من شخص إلى آخر وفق عدّة ضوابط، وتقول "آن رو" Ann Roe: "ولقد كتبت ملايين الكلمات عن الإبداع لكنّ قليلا منها يعتبر مبصرا حقّا، والمرحلة الحاسمة في العملية تأخذ مكانها في ما قبل الشّعور أو اللاشعور، ولذا فإنّ دراستها صعبة المنال جدا" [127].

إنّ أيّ أمر يتعلق بنفس الإنسان هو معقد جدا، ولا يحتاج إلى نظرية واحدة أو قول واحد، بل تتعدّد النّظريات والآراء بتعدّد النّفسيات وسلوكات الشّخصية، ومبدئها وغايتها، ولن تكون النّهاية بل عندها لا يمكن الجزم والقول إنّه الأمر الحتمي، فهذا شاذ عن القاعدة، وذاك لا تنطبق عليه القاعدة، وهلمّ جرا، بل إنّ مطاردة أيّ جانب نفسي في الإنسان سيكون أشبه بمطاردة خيط من دخان، وما يمكن الخروج به بعد هذا كلّه هو رصد ثلاث نقاط أو أربعة إن وسعنا الدائرة:

أوّلا: إنّ النّصوص السّابقة والّتي كان المبدع قد التهمها سابقا بالسّماع أو الحفظ لها دور كبير في إنتاج وإبداع النّصّ الأدبيّ، وتخرج بنسبة كبيرة من مشارف اللاوعي ونستدل هنا بقول الدّكتور شجاع العاني إذ قال: "التّناصّ نوعان: تناص غير واع وتناصّ واع، ويعتبر الأوّل هو المهيمن على النّصوص أكثر من الثّاني" [128].

ثانيا: يشكل تقاطع النّصوص السّابقة، أو المزامنة من باب الوعي نسبة في إبداع النّصوص لحاجة في نفس المبدع للتّأثير على جمهوره أو حتّى من باب السّرقة أو الاستشهاد والتّمثّل، ولما رأينا بأنّ الإبداع تحكمه الدّربة، والموهبة، والاستعداد الفطري، والبيئة ...، وسيأخذ كلّ طرف حقّه في الجانب الإبداعي، ولكن بنسبة أقلّ من الاحتمال الأوّل.

ثالثا: يمكن أن تكون النّصوص متطابقة تطابقا كلّيا أو جزئيا، وهذا لا يعني أنّها كانت من مخزون الكاتب أو الشّاعر وطفت من باب الوعي أو اللاوعي، فقد تكون من باب توارد خواطر، وهنا علينا القول أن قضيّة توارد الخواطر تشكّل نسبة أقلّ من الاحتمال الثّاني (الوعي)، وهو بدوره أقلّ من الاحتمال الأوّل (اللاوعي).

رابعًا: أو أن النص لا يرد إلى هذا أو ذاك فقد يكون مرده إلى الله تعالى، أو قوى خارقة أخرى كما أوردنا في بداية المقال، وقد يقول البعض أنه يمكن إهمال هذا، هذا صحيح لكنه يأخذ حقه من الاحتمالات، كل حسب اقتناعاته بما يؤمن.

هذا البحث منشور بهوامشه في مجلة دراسات أدبية العدد الأول ماي 2008 من الصفحة 93 إلى الصفحة 120 ومجلة دراسات أدبية مجلة علمية مكمة يصدرها مركز البصيرة للبحوث والدراسات بالجزائر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق