من أنا

صورتي
الأستاذ ريوقي عبد الحليم أستاذ جامعي رئيس تحرير مجلة علمية محكمة عضو خلية الذخيرة العربية بالمجمع الجزائري للغة العربية رئيس منتدى البحوث والدراسات والترجمة يمتلك خبرة 12 سنة في عالم الكتاب والتوثيق والمعارض الولائية والوطنية والدولية مارس الإدارة لأكثر من ستة سنوات في مجالات مختلفة مارس الصحافة لأكثر من سنتين

الثلاثاء، 14 سبتمبر 2010

مقاربات بين النقد الغربي الحديث والعربي القديم - التناص نموذجا -

مقاربات بين النقد الغربي الحديث والنقد العربي القديم



( التناص أنموذجا )


الأستاذ عبد الحليم ريوقي



جامعة البليدة



تمهيد :



يجد الباحث كثيرا من التقاطعات والمقاربات بين النقد الغربي الحديث والنقد العربي القديم الأصيل، فالأسلوبية مثلا أو السيميائية، التداولية...، نجد لها ما يقابلها في النقد العربي القديم من جهة المفاهيم أو حتى المصطلحات في بعض الأحيان، ولربما كان التفصيل أكبر وأشمل مما هو عليه الحال في النقد الغربي الحديث، وبشيء من الموضوعية فهناك بعض الفنون النقدية الحديثة عرفها النقاد العرب المتقدمون بشيء من الشرح اليسير، وتلميحات فقط، غير أن التطرق لكل هذه المقاربات يلزمنا الكثير من الوقت، والكثير من الصفحات إن لم نقل الكثير من الكتب وخلايا وفرق البحث، وسنركز في مقالنا هذا على مصطلح ومفهوم التّناصّ.



فالتناص كمصطلح نقدي ظهر في النّقد الغربيّ الحديث، ويرجع النّقّاد الغربيون بذوره الأولى إلى النّاقد الرّوسي باختين عندما لاحظ تعدد الأصوات في روايات دوستوفسكي وهيمنة الصوت الداخلي في روايات تولستوي، وقد يكون شكلوفسكي أشار أيضا إلى المصطلح، وقد يكون زميله تشيتشرن، ولربّما ساهم دوسوسير بحظّه فيه كما أشارت إلى هذا جوليا كريستيفا عندما قالت بأن دوسوسير أشار إلى ما يعرف بالكلمات تحت الكلمات، وسيحاول كلّ واحد الانتصار لمذهبه أو لأستاذه، لإعطاء قصب السّبق له، ولا ننكر أنّ من الباحثين من يتحرى الحقيقة بعيدا عن التّعصب، وبكلّ موضوعية، ونجد الكثير من النّقّاد العرب، والدّارسين المهتمين بأمر التّناصّ خصوصا، والنّقد عموما، ولربّما حتّى غير المهتمين يقولون بأنّ التّناصّ يتقاطع في كثير من النّقاط مع مفاهيم ومصطلحات نقدية عربية قديمة من حيث التّعريف، والمنهج والآلية، ومن هؤلاء الدّارسين العرب من يرفض هذه الفكرة لاختلافهما تعريفا ومنهجا ومنهم من يتوسط الأمور، ويمسك العصا من وسطها فيجلّ هذا، ويثمّن ذاك، فأردنا أن نستقصي الأمور، ونورد الأقوال، والآراء علّنا نخرج بأفكار تزيل عنّا هذا الإشكال.



شغل بال الباحثين العرب المحدثين عندما تناولوا مفهوم التّناصّ أمران، وهما مقومات ومفهوم التّناصّ ومجالات تطبيقاته والهدف منه هذا أوّلا، وثانيا المحاولة والسّعي لربطه بالمفاهيم النّقديّة العربيّة القديمة.



تعريف التّناصّ :



فضلنا أن ندخل مباشرة في تعريف التناص دون الخوض في تاريخ المصطلح، فما يهمنا هنا هو مقارباته من حيث المصطلح والمفاهيم في النقد العربي القديم، وللتناص عدة تعاريف متعددة لتعدد المناهج والمفاهيم، ويعرف ميشال ريفاتير التّناصّ بقوله: "التّناصّ هو ملاحظة القارئ لعلاقات ما بين عمل أدبي وأعمال أخرى سابقة أو لاحقة، وهو الآلية الخالصة للقراءة الأدبيّة التي وحدها في الواقع تنتج الدّلالة أمّا القراءة السّطرية المشتركة بين النّصوص الأدبيّة، وغير الأدبيّة فإنّها لا تنتج غير المعنى"[1] ويعرفه جيرار جينيت فيقول: "أمّا أنا أعرفه بطريقة لاشكّ مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين نصّين أو عدّة نصوص، بمعنى عن طريق الاستحضار Eidétiquement، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعلي لنصّ داخل آخر بشكلها الأكثر جلاء وحرفية، وهي الطّريقة المتبعة قديما في الاستشهاد Citation [...]، وفي حال السّرقة الأدبيّة Plagiat [...]، وفي حال التّلميح L’allusion"[2].



"أشار الباحث ميشال ريفاتير إلى مفهوم التّناص، واستعمله كمرتبة من مراتب التّأويل، وهذا الاستعمال مرتبط بأفكاره عن الوقائع البلاغية الأسلوبية، والمقروئية الأدبيّة على مستوى افتراض تطابق متبادل بين الشكل والمضمون، فإنّ مرجعيات النّصوص حسب ريفاتير هي نصوص أخرى، والنّصّيّة مرتكزها التّناصّ"[3].



والتناص بمفهومه الدقيق لا يعني ضم النصوص أو الشواهد بعضها البعض ولكنه يعمل على إدخالها في شبكة من العلاقات الحية التي تربط الأوشاج المختلفة لثقافة معينة أو ثقافات متباينة، وهكذا يصير التناص في مفهومه الواسع صيغة من صيغ التحول[4].



ولوران جيني L.Jenny يعرف التناص "هو عملية تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم بها نص مركزي يحتفظ بزيادة المعنى"[5].



ويعرّفه فيليب سولرس F. Sollers، بقوله: "كلّ نصّ يقع في مفترق طرق عدّة نصوص فيكون في آن واحد إعادة قراءة لها، وامتدادا وتكثيفا ونقلا وتعميقا"[6]. التناص هو التقاطع داخل نص لتعبير مأخوذ من نصوص أخرى[7].



أمّا الدّكتور عبد الملك مرتاض فيعرّف مصطلح التّناصّية "بأنّها تبادل التّأثير، والعلاقات بين نصّ أدبي ما، ونصوص أدبية أخرى"[8]. فالتناص إذن هو [...]عملية تفاعل معقدة غالبا وغير ظاهرة إلا بإنعام النظر أما النص فهو في طبيعته اللغوية تاريخي لا يتحقق إلا عبر نصوص أخرى كثيرة [9]، ويعرفه الدكتور محمد عناني بقوله : "التناص هو تلك العلاقة بين نصين أو أكثر التي تؤثر في طريقة قراءة النص المتناص، أي الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى أو أصداؤها "[10]، وعرّفه عمر أوكان بقوله: "يمثل التّناص تبادلا حوارا، رباطا، اتّحادا، وتفاعلا بين نصّين أو عدّة نصوص تلتقي في النّصّ، عدّة نصوص تتصارع يبطل أحدهما مفعول الآخر، تتساكن تلتحم تتعانق، إذ ينجح النّصّ في استيعابه للنّصوص الأخرى، وتدميرها في ذات الوقت إنّه إثبات ونفي وتركيب"[11].



ومحمد مفتاح الناقد المغربي بعد أن قرأ عدة تعاريف للتّناصّ من قبل باحثين مثل "كريستيفا وأورفي ولورانت وريفاتير..." يقول عن هذه التّعاريف وأصحابها بأنّهم: "لم يقدموا تعريفا جامعا مانعا للتّناصّ"[12]، ويقول: "فإنّنا سنلجأ أيضا لاستخلاص مقوّماته من مختلف التّعاريف المذكورة، [ومن هنا يمكن للنّصّ أن يكون]



1) فسيفساء من نصوص أخرى أدمجت فيه بتقنيات مختلفة.



2) ممتصّ لها يجعلها من عندياته، وبتصييرها منسجمة مع فضاء بناءه، ومع مقاصده.



3) محوّل لها بتمطيطها أو تكثيفها بقصد مناقضة خصائصها، ودلالتها أو بهدف تعضيدها.



ومعنى هذا أنّ التّعالق هو تعالق (الدّخول في علاقة) نصوص مع نصّ حدثت بكيفيات مختلفة"[13].



التناص هو إحياء أو استدعاء نص أو عدة نصوص سابقة في نص لاحق وتختلف الآليات والكيفيات، من استدعاء كلي أو جزئي، ويكون إما بنفي كلي أو جزئي أو بتقابل أو توازي وتتباين الكيفيات بين اجترار أو امتصاص أو بشكل حواري، والنصوص ليس شرطا أن تكون من جنس العمل الأدبي فقد تكون تاريخية، اجتماعية، سياسية، رموز دينية، فلسفية، ثقافية ...، فالتناص يجعلنا ننظر إلى النّصّ بأنه عبارة عن نصوص أخرى تداخلت فيما بينها بطرق مختلفة وما التّناصّ إلاّ تلك التّقاطعات والتّداخلات ما بين النّصوص في النّصّ الواحد، أو أنّه استدعاء نصوص للمشاركة في بناء نصّ جديد وفق تقنيات خاصّة ومتعدّدة، وطرق وآليات مختلفة.



أنماط التّناصّ:



قصدنا بأنماط التّّّّّّّّناصّ المتعاليات النّصّيّة الّتي تكلم عنها جيرار جنيت في كتابه أطراس، ويقول: "ويبدو لي اليوم (13 أكتوبر 1981) أنّني عرفت خمسة أنواع من العلاقات الخاصّة بالمتعاليات النّصّيّة سأرتبها وفق نظام تصاعدي يتبع التّجريد Abstration، والتّضمين Implication، والإجمال Globalité"[14].



النّوع الأوّل: "التّناصّ Intertexte" وضعته منذ بضـع سـنوات جولـيا كريسـتيفا [15] Julia Kristeva [في كتابها Sémiotique] تحت اسم التّناص Intertextualité، وهذه التّسميّة طبعا تعزز نموذجنا الاصطلاحي، [فيقول جيرار جينيت]: أمّا أنا أعرّفه بطريقة لا شكّ مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين عدّة نصوص بمعنى عن طريق الاستحضار Eidétiquement، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعلي لنصّ داخل آخر بشكلها الأكثر جلاء، وحرفية وهي الطّريقة المتّبعة قديما في الاستشهاد Citation [...]، أو بشكل أقل وضوحا، وأقل شرعيةMoins canonique في حالة السّرقة الأدبيّة Plagiat [...]، أو في حالة التّلميح [16]L’allusions".



النّوع الثّاني: المناصّParatexte أو النّصّيّة المتوازية Paratextualité، "مكون من العلاقة الأقل وضوحا بصفة عامة، والأكثر اتساعا عن المجموع الّذي يشكّله العمل الأدبيّ [...]، ويتمثله (العنوان، العنوان الفرعي، العنوان الدّاخلي، الدّيباجات، التّذييلات، التّنبيهات، التّصدير، الحواشي الجانبية، الحواشي السّفلية، الهوامش المذيّلة للعمل، أو في النهاية والمقتبسات"[17].



النّوع الثّالث: الميتانصّ Metatexte أو النّصّيّة الواصفة metatextualité، "وهو بكلّ بساطة علاقة التّفسير والتّعليق الّتي تربط نصّا بآخر يتحدث عنه دون الاستشهاد به أو استدعائه بل يمكن الأمر إلى حدّ عدم ذكره"[18].



النّوع الرّابع: النّصّ اللاحق hypertexte أو النّصّيّة المتفرّعة hypertextualité، يقول جيرار جينيت: "أرجأت عمدا الإشارة إليه، إلى النّوع الرّابع من النّصّيّة المتعالية لأنّه هو وحده فحسب الذي سيشغلنا هنا مباشرة، وهو الّذي سأنعته من الآن فصاعدا بالنّصّيّة المتفرّعة hypertextualité، وأقصد بهذا كلّ علاقة تجمع نصّا (ب) الّذي سأسمّيه نصّا متفرّعا [hypertexte] بنصّ سابق (أ) سأسمّيه نصّا أصليا (hypertexte) يلقح منه بطريقة مغايرة لتلك التي نجدها في التّفسير"[19].



النّوع الخامس: معمارية النّصّ architexte أوالنّصّيّة الجامعة l’architextualité،"وهو الأكثر غموضا، وخفاء [...] ،ويتعلق الأمر بعلاقة بكماء بحيث يتقاطع –على الأكثر- إلاّ مع إشارة واحدة من إشارات النّصّ الموازي الّتي لها طابع صنافي خالص مثل العنوان البارز كما في الأشعار، الدراسات [...]، فالرّواية لا تتحدّد ذاتها بوضوح على أنّها رواية، ولا القصيدة على أنّها قصيدة، بل ولربّما وبطريقة أكثر حصرا (لأنّ النّوع ليس سوى مظهر جامع للنّصّ)"[20]



أقسام التّناصّ:



أقسام التّناصّ هي آليات وتقنيات أو الكيفيات لتوظيف النّصّ السّابق في النّصّ اللاحق. "ومن التّقسيمات الثّلاثية للتّناصّ ما قام به كلّ من كريستيفا، وجان لوي بملاحظتهما أنّ للتّناصّ أو لإعادة كتابة النّصّ الغائب ثلاث قوانين هي:



1- الاجترار: عملية إعادة الكتابة النّصّ الغائب بوعي سكوني، وتمجيد بعض مظاهره الشّكلية الخارجية. (ويدخل في هذا القسم إعادة النص السابق بشكل حرفي أو نسخي في النص اللاحق).



2- الامتصاص: عملية إعادة كتابة النّصّ الغائب وفق النّصّ الجديد ليصبح امتصاص له متعاملا معه [بشكل] حركي وتحولي. (وهو يوحي إلى أخذ بعض المعنى دون اللفظ بشكل كلي أو العكس أخذ المعنى بشكل كلي وبعض اللفظ).



3- الحوار: عملية تغيير النّصّ الغائب، ونفي قدسيته في العمليات السّابقة (ومن الخطأ الشائع عند الباحثين أن التناص بشكل حواري هو دائما نفي النص السابق أو عكسه في المعنى لكن التناص بشكل حواري قد يكون شرح أو تفسير أو تعقيب على النص السابق)"[21].



"بينما حصر لوران جيني L. Jenny في كتابه "إستراتيجية الشّكل" التناص في ثلاث أصناف وهي:



1- التّحقيق: إنجاز المعنى أو المضمون الذي كان في تراث النّصوص السّابقة يشكل وعدا. ( وهو يقترب من الشكل الاجتراري)



2- التّحويل: أخذ المعنى والذّهاب به إلى أبعد مما هو عليه. (وهو يقترب من الشكل الامتصاصي).



3- الحذف: التّجاوز على معنى ما، والتّضاد والتّناقض معه" (وهو يقترب من الشكل الحواري)[22].



وإذا تكلمنا عن التّضاد والتّناقض، "فإنّنا نجد جوليا كريستيفا تضع النّفي على ثلاث أقسام:



- "النّفي الكلّي: وفيه يكون المقطع الدّخيل منفيا كليا، ومعنى النّصّ المرجعي مقلوبا.



- النّفي المتوازي: حيث يظلّ المعنى المنطقي للمقطعين هو نفسه إلاّ أنّ هذا لا يمنع من أن يمنح "لوتريامون" للنّصّ المرجعي معنا جديدا معاديا للإنسية، والعاطفية والرومانسية الّتي تطبع الأوّل مثلا هذا مقطع "للأروشفوكو": "وإنّه لدليل على وهن الصّداقة عدم الانتباه لانطفاء صداقة أصدقاءنا"، والحال يصبح عند لوتريامون: "وإنّه لدليل على الصّداقة عدم الانتباه لتنامي صداقة أصدقاءنا".



- النّفي الجزئي: حيث يكون جزء واحد فقط من النّصّ المرجعي منفيا"[23].



التّناصّ بمفهوم عام مستنبط من التّعاريف السّابقة هو إحياء (توظيف) نصّ سابق أو عدّة نصوص سابقة في نصّ لاحق، وتتمظهر النّصوص السّابقة في النّصّ اللاحق بعدّة أشكال فقد تكون ظاهرة أومخفية ولا توجد محددات للنص أو النصوص السابقة فليس شرطا أن يكون من نفس الجنس الأدبي ، فمثلا الشاعر ليس بالضرورة أن يناصص النصوص الشعرية فقط وكذلك الناثر والقاص والروائي فالتناص شامل للأساطير والرموز الدينية والتاريخية والفلسفية والأفكار الاجتماعية والسياسية...، والعادات والتقاليد والقصص والأخبار، وكل ما هو موروث من التعابير الإنسانية والعلمية. بل إنها جمالية من جماليات التناص.



وهناك تقسيم ثنائي للتناص وهما:



1- "التّناص الظّاهر أو الصّريح [ فالنص السابق ظاهر وواضح المعالم ويمكن اكتشافه بسهولة، وهذا طبعا من لدن قارئ يمتلك ثقافة واسعة، ولأن صاحب النص أعاد النص السابق بشكل حرفي ولم يعمد لإخفائه ببعض التغييرات].



2- التّناصّ المستتر [ هنا صاحب النص يعمد لإخفاء النص السابق في اللاحق ببعض التغييرات التي تطمس معالمه، ولا يدرك هذا إلا صاحب نظرة بعيدة ويمتلك حسا فائقا في المقارنة والاستحضار]"[24]. "وهناك تقسيم مشترك بين فورليشنوف وباختين للتّناصّ [وإن لم يسمّياه بهذا الاسم] إذ يقسماه إلى أولا: خطّي : وهو الّذي يقترب من التّضمين والاقتباس بوجود الإحالة أو غيابها.ثانيا : تصويري : وهو مستتر يخفي النّصّ الغائب في نسيجه"[25].



ومن هذا التّقسيم الأخير يظهر لنا جليّا أنّ التّناصّ الخطّي هو التّناصّ الظّاهر، والتّناصّ التّصويري هو تناص الخفاء (المستتر).



وهو ما ذهب إليه مفيد نجم بأنّ قسم التّناصّ إلى قسمين: تناص ظاهر، وتناص خفاء (المستتر)[26]، "غير أنّ الدّكتور شجاع العاني آثر أن يرفده بضلع ثالث هو النّصف مستتر، ويعني به النّوع الّذي يلمّح له الكاتب تلميحا لا تصريحا، وغالبا ما يتمّ هذا التّلميح في عنوانات النّصوص، وبطريقة مموّهة"[27].



-9:مقاربة التّناصّ في النّقد العربيّ القديم :



سعى الكثير من الدارسين العرب المحدثين إلى ربط التناص بما يوجد في الفكر النقدي العربي القديم، فالدّكتور عبد الملك مرتاض يقول: "إنّ الأدب العربيّ عرف التّناصّ تحت مسمّيات أخرى كالسّرقات الأدبيّة والاقتباس ونحوهما، وذلك أمر عالجناه في دراسة نشرناها"[28] -.



ويقول د. محمد العمري: "تأويل قضية السّرقة تأويلا لسانيا شعريا يتصل بالمتخيل يعتبر خروجا من المنزلق الّذي وقع فيه نقاد الخصومات بين الفحول إنّه تدخل بلاغي لحسم قضية نقديّة مشبوهة وإدخالها المفهوم الحديث للتّناصّ"[29]، ومحمد العمري عندما يتطرق إلى الأخذ وتداول المعاني عند أبي هلال العسكري يضع أمامها التّناصّ، وكأنّه يشير ويقرّ في نفس الوقت على أنّه مرادف لهما، وهو إذ ذاك يمنح صفة التّماثل بينهما، ولربّما التّضارع[30]. التضارع هنا يقصد به التشابه التام.



والدّكتور مصطفى السعدني عندما نظر في مفهوم التّناصّ، ووضع له إسقاطات في النّقد العربيّ القديم وقال: "قد يكون الإيجاب هو الطّرح الأسهل إذا ما تصورنا المفهوم الألسني الحديث من قبيل الإسقاط، ولكنّه مع الصّبر في فكّ التّسليم الأبدي بالمسلمات في إعادة قراءة نصوص التّراث فيتضح أنّ فكرنا النّقدي البلاغي القديم قد وعى –في جانب منه- وجود تلك الظّاهرة الإبداعية، وإدراك خاصيتها الأساسية"[31].



ويقول د. نور الدّين السّد: "ويحسن بالبحث أنّ يشير إلى أهمّ المصطلحات النّقديّة العربيّة القديمة الّتي قاربت دلالة التّناصّ، ومفهومه من قريب أو بعيد، وتحديد دلالتها كما وردت في الدّراسات النّقديّة، والبلاغية القديمة والحديثة، ولقد أحصينا ثمانية وعشرين مصطلحا عربيا قارب مفهوم التّناصّ "[32]، ويذهب صبري حافظ بأنّ التّناصّ له ملامح، وعلامات في النّقد العربيّ القديم، ويذهب إلى أنّ هناك تسعة عشر مصطلحا لها مفهوم التّناصّ[33].



ويقول العلامة ابن خلدون (ت 808 هـ - 1406 م): "الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتّى تنشأ في النّفس ملكة ينسج على منوالها [...]، فذلك أجمع له، وأنشط للقريحة أن يأتي بمثل المنوال الّذي في حفظه"[34]، فيقول د. عبد الملك مرتاض معلقا على ما قاله ابن خلدون: "بأنّه يندرج ضمن نظرية التّناصّ المبكرة عند العرب، وإذا لم يطلق الشّيخ مصطلح التّناصّ على ذلك"، ثمّ يتساءل عبد الملك مرتاض: "أليس هذا هو التّناصّ؟، أو ليس هذا هو حوار النّصوص السّابقة مجسّدة في النّصّ الحاضر المكتوب فيما يزعم الحداثيون الغربيون على الأقل؟"[35].



ومن الباحثين من يتوجه إلى وجود حدود بين التّناصّ، وتلك المصطلحات أو على الأقل فهناك اختلاف من حيث المنشأ، والدّوافع، والأهداف من تلك المفاهيم، فيقول محمد مفتاح: "فقد غفل كثير من المؤولين عن شروط إمكان انبثاقه [أي انبثاق التّناصّ]، فاعتقدوا أنّه هو الحديث عن المصادر، أو أنّه هو السّرقات، وقد صيّر الكثير من المبدعين كتاباتهم كشكولات من الاقتباسات والتّضمينات وإشارات واهية الصّلة فيما بينها"[36]، ومع هذا يرى محمد مفتاح تداخلا كبيرا بين التّناصّ، ومفاهيم أخرى مثل الأدب المقارن، المثاقفة، ودراسة المصادر، والسّرقات، وهو يدعو إلى دراسة علمية لتمييز كلّ مفهوم على حدة، وتتناول الظّروف التّاريخية الابستمية الّتي ظهر فيها [كلّ مصطلح][37].



أمّا د. عمر أوكان يرى بأنّ "التناص ليس سرقة، وإنّما هو قراءة جديدة إنّه كتابة ثانية ليس لها نفس المعنى الأوّل"[38].



ويرى الدّكتور خليل موسى في سعيه للمقارنة بين مفهومي التّناصّ والسّرقة وإقامة الفوارق بينهما فوقف على ثلاث فوارق هي :



1) "على مستوى المنهج: فالسّرقة تعتمد على المنهج التّاريخي التّأثري، والسّبق الزّمني، فاللاحق هو السّارق، والأصل الأوّل هو المبدع، والنّموذج الأجود، بينما يعتمد التّناصّ على المنهج الوظيفي، ولا يهتم كثيرا بالنّصّ الغائب.



2) على مستوى القيمة: فناقد السّرقة الأدبيّة إنّما يسعى لاستنكار عمل السّارق وإدانته في حين أنّ ناقد التّناصّ يقصد إظهار البعد الإبداعي في الإنتاج.



3) على مستوى القصدية: ففي السّرقة العملية قصدية واعية، بينما التّناصّ تكون لا واعية"[39].



ويردّ عبد السّتار جبر الأسدي على رأي الدّكتور خليل موسى بقوله: "ونحن لا نشاطر د. خليل موسى الرّأي [...]، لأنّه ليس التّناصّ لا واعيا فقط، بل هناك قسما منه ذو طبيعة قصدية واعية وهو لا يرى وجها للتّشابه بين مفهوم السّرقة العربيّ، ومفهوم التّناصّ الغربي حيث يرى مفهوم التّأثر والتّأثير الّذي بنيت وفق مبدئه مدرسة الأدب المقارن الفرنسية هو الأقرب إلى مقولة السّرقات الأدبيّة في نقدنا العربيّ القديم اعتمادا على المبدأ التّاريخي الّذي يعطي أولوية الفضل للسّابق قبل اللاحق"[40]، وممّا نضيفه نحن هاهنا أنّ د. خليل موسى ذهب لإعطاء فرق بين السّرقة والتّناصّ عند النّاقد ووجه استعمالاته ووظائفه، ولكن كان عليه أن يقارن الأصل فإنّ الكثير من الأشياء لها أوجه استعمالها، وكيفياتها مختلفة، لكنّ أصلها واحد فنحن بصدد مقارنة السّرقة مع التّناصّ، وليس بكيفية الاستعمال في النّقد.



وحتّى جيرار جينيت منظّر التّناصّ يضع السّرقة Plagiat ضمن النّوع الأوّل من المتعاليات النّصّيّة عنده إذ يقول: "أمّا أنا أعرّفه بطريقة لا شكّ مكثفة بعلاقة حضور متزامن بين نصين أو عدّة نصوص بمعنى عن طريق الاستحضار، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعلي لنصّ داخل آخر بشكلها الأكثر جلاء وحرفية، وهي الطّريقة المتبعة قديما في استشهاد Citations (بين مزدوجتين بالتوثيق أو دون توثيق معين)، أو بشكل أقلّ وضوحا وأقل شرعية moins canonique في حال السّرقة الأدبيّة plagiat [...]، وهو اقتراض غير مصرّح به، ولكنّه أيضا حرفي، أو بشكل أقل وضوحا وأقلّ حرفية في حال التّلميح l’allusion"[41].



وما يمكن إضافته هنا بأن مصطلح السرقة تناوله النقاد العرب المتقدمون بشكل نقدي وليس بمعيار خلقي، فسارق المال لا يشبه سارق الألفاظ والمعاني، لكنهما اشتركا في المنهج وطريقة الأخذ، فأطلق عليهما نفس الاسم وهي السرقة، فإن أخذ المعاني قد تتم من مشارف الوعي وفي أغلب الأحوال من مشارف اللاوعي وهنا لا نتهم الآخذ بالسرقة التي يفهمها البعض بأنها من غير الواجب فعلها. وحقيقة هناك سرقات من هذا النوع، ولكن النقاد المتقدمين وضعوا سرقات محمودة وسرقات منبوذة ولكل مصطلحاتها، وهنا وجب عدم الخلط والدمج.



أما إذا نظرنا إلى التّناصّ على أنّه حضور نصّ أو عدّة نصوص سابقة أو متزامنة مع نصّ معين فيه، وبكيفيات مختلفة فإذا فتشنا في نقدنا العربيّ القديم فإنّنا نجد كثيرا من المصطلحات تدخل في هذا المفهوم، ولربّما حتّى بدون عناء، بل حتّى إنّنا نقف أمام تقسيمات مختلفة في النّقد العربيّ القديم فكل ناقد انفرد بتقسيمات مختلفة فلو جمعت كلّها لكانت أحسن تقسيما من تقسيمات التّناصّ نفسه، فالنّقّاد المتقدّمون مثل ابن رشيق، ابن الأثير، الخطيب القزويني، أبو هلال العسكري، حازم القرطاجي، أشاروا إلى إمكانية توارد الخواطر فيقع النّصّين متقاربين في المعنى أو حتّى لفظا ومعنى يقول حازم القرطاجني (ت 684هـ): "إنّ من المعاني ما يوجد مرتسما في كلّ فكر، ومتصوّرا في كلّ خاطر، ومنها ما يكون ارتسامه في بعض الخواطر دون بعض"[42]، ويقول ابن الأثير "يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة، وتستوي في إيرادها، ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم سرقة"[43].



وابن رشيق بعد أن سرد أنواع السّرقات وقف على أمر توارد الخواطر، وأقربها، وكذلك الخطيب القزويني بعد أن عدّ أنواع السّرقة تحت نوعي الظّاهر، وغير الظّاهر يختمها بقوله: "هذا كلّه إذا علم أنّ الثّاني أخذ من الأوّل، وهذا لا يعلم إلاّ بأنّه كان يحفظ قول الأوّل حيث نظم قوله أو بأن يخبر هو عن نفسه أنه أخذ منه بجواز أن يكون الاتّفاق من قبيل توارد الخواطر"[44].



" وسئل أبو عمرو بن العلاء (ت363هـ): أرأيت الشّاعرين يتفقان في المعنى، ويتواردان في اللفظ، ولم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع شعره، قال: تلك عقول الرّجال توافت على ألسنتها"[45]-[46]، "وسئل أبو الطّيّب [المتنبي] (ت354هـ) عن مثل ذلك فقال: الشّعر جادة وربّما وقع الحافر موضع الحافر"[47]، ويقول أبو هلال العسكري (ت395هـ): "وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدّم من غير أن يلمّ به ولكن كما وقع للأوّل وقع للآخر، وهذا أمر عرفته من نفسي فلست أمتري فيه، وذلك أنّي عملت شيئا في صفة النّساء.



"سفرن بدورا وانتقبنّ أهلة"



وظننت أنّي سبقت إلى جمع هذين التّشبيهين في نصف بيت إلى أن وجدته بعينه لبعض البغداديين، فكثر تعجبي، وعزمت على أن لا أحكم على المتأخّر بالسّرق من المتقدّم حكما حتما"[48].



ونرى بأنّ ما عمله أبو هلال العسكري في صفة النّساء "سفرن بدورا وانتقبن أهلة" يقترب كثيرا من قول أبي تمّام(ت231هـ):



تريك هلالا أو يقال لها اسفري فتسفر شمسا أو يقال تنقبي[49]



وتوارد الخواطر إلهامي بدون سبب معين، وقد يكون مرده إلى البيئة الواحدة الّتي تؤثر على كلّ من يعيش فيها بنفس التّأثير، فتأتي الأفكار، والخواطر متشابهة، أو متقاربة، وفي هذا الصدد يقول أبو هلال العسكري: "وإذا كان القوم في قبيلة واحدة، وفي أرض واحدة فإنّ خواطرهم تقع متقاربة، كما أن أخلاقهم، وشمائلهم تكون متضارعة"[50]، ضف إلى ذلك ما تنطوي عليه البيئة من وسائل تأثير كطرق التّفكير، ومناهج التّعليم الواحدة، ومصادر التّلقي المشتركة، والمبادئ المتّحدة، والأهداف الواحدة، ومناظر، وعادات، وتاريخ، وقيّم...



وإذا ما سلمنا بأمر توارد الخواطر، والأفكار فإنّنا سنقع في أمر آخر، وهو أنّ توارد الخواطر سيفتح الباب أمام السّارق الأدبيّ فيقول: خطر على بالي كما خطر على بال الأوّل، وهذا ما أشار إليه الجاحظ إذ يقول: "ولا يكون أحد منهم أحقّ بذلك المعنى من صاحبه، أو لعلّه يجحد أنّه سمع بذلك المعنى قط، وقال إنّه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأوّل"[51].



لكن في التّناصّ وفي حدود اطلاعنا وعلمنا لم نجد أثرا لتوارد الخواطر والمعاني، وإذا قمنا بمقارنة ومقاربة بين مصطلحات النّقد العربيّ القديم من جهة ومفهوم التّناصّ من جهة أخرى سنجد حتما كثيرا من مصطلحات النّقد العربيّ القديم تدخل في مفهوم التّناصّ الّذي ظهر في النّقد الغربي الحديث، وقسمنا مقاربتنا للتناص إلى عدة نقاط.



مقاربة بين التناص و المصطلحات النّقديّة العربيّة القديمة:



إذا كان التّناصّ بمفهومه العام هو حضور نصّ في نصّ آخر بطريقة أو أخرى، ورأينا سابقا كثيرا من أقوال الدّارسين العرب المحدثين ودراساتهم الّتي تؤكد تقاطع الكثير من المصطلحات النّقديّة العربيّة القديمة مع مفهوم التّناصّ وتدخل فيه، وهذه المصطلحات والمفاهيم التي تتراوح بين التّنظير الصّريح أو التّلميح إن اختلفت فيما بينها من حيث المعايير النّقدية قديما عند النّقاد العرب، إلاّ أنّها بنظرة خاطفة وبسيطة نرى بأنّ لها نفس مفهوم التّناصّ بل أحسن تقسيما وتفصيلا منه، ونذكر من هذه المصطلحات النّقديّة العربيّة القديمة الّتي تدخل في مفهوم التّناصّ فمنها "تداول المعاني" عند أبي هلال العسكري وأبو هلال العسكري عندما يتكلم عن حسن الأخذ، وتداول المعاني يقول: "ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممّن تقدمهم والصّبّ على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم، ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ويوردوها في غير حلّتها الأولى، ويزيدوها في حسن تأليفها، وجودة تراكيبها، وكمال حليتها، ومعرضها فإذا فعلوا ذلك فهم أحقّ بها ممّن سبق إليها"[52].



وما أتى به الحاتمي من نماذج، وتسميات للسّرقات وأنواعها وسار ابن رشيق مثلما سار إليه الحاتمي من تسميات مثل



1)الاصطراف: "أن يعجب الشّاعر ببيت من الشّعر، فيصرفه إلى نفسه، فإن صرفه إليه على جهة المثل فهو اجتلاب، واستلحاق، وإن ادّعاه جملة فهو انتحال، ولا يقال منتحل إلاّ لمن ادّعى شعرا لغيره، وهو يقول الشّعر، وأما إن كان لا يقول الشّعر فهو مدّع غير منتحل"[53]. فالاصطراف الذي هو اجتلاب واستلحاق:



"كما قال زياد الأعجم :



أشمّ إذا ما جئت للعرف طالبا حيال بما تحوي عليه أنامله



ولو لم يكن في كفّه غير نفسه لجاد بها فليتّق الله ســائله



ويروى هذا لأخت يزيد بن طثرية، واستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره"[54] - [55]. أمّا الاصطراف الذي هو بمثابة انتحال كقول جرير:



إنّ الّذين غذوا بلبك غـادروا وشلا بعينيك لا يزال معينا



غيّضن من عبراتهن وقلنّ لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا



فإنّ الرّواة مجمعون على أنّ البيتين للمعلوط السّعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضا قول طفيل الغنوي :



ولما التقى الحيّان ألقيت العصى ومات الهوى لما أصيب مقاتله"[56]



2) الإغارة : "أن يضع الشّاعر بيتا، ويخترع معنى مليحا فيتناوله من هو أعظم منه ذكرا، وأبعد صوتا فيروى له دون قائله كما فعل الفرزدق بجميل [بن معمر]، وقد سمعه ينشد:



ترى النّاس ما سرنا يسيرون خلفنا وإن نحن أومأنا للنّاس توقفوا



فقال [الفرزدق] متى كان الملك في بني عذرة ؟ ،إنّما هو في مضر، وأنا شاعرها فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل، ولا أسقطه من شعره"[57].



3) الغصب: "وأما الغصب فمثل صنيعه بالشّمردل اليربوعي وقد أنشد في محفل :



فما بين من لم يعط سمعا وطاعة وبـين تميم غير حزّ الحلاقم



فقال الفرزدق : والله لتدعنّه أو لتدعنّ عرضك ،فقال [اليربوعي]: خذه لا بارك الله لك فيه"[58].



4) المرافدة : "وأمّا المرافدة : فأن يعين الشّاعر صاحبه بأبيات يهبها له كما قال جرير لذي الرمّة أنشدني ما قلت لهشام المرئي فأنشده قصيدته :



بنت عيناك عن طلل بحزوى محته الريح وامتنح القطارا



فقال [جرير] :ألا أعينك ؟ قال: بلى بأبي ،وأمي، قال : قل له :



يعدّ النّاسبون إلى تميــم بيوت المجد أربــعة كبارا



يعدون الرباب وآل سـعد وعمرا ثم حــنظلة الخيارا



ويهلك بينها المرئي لـغوا كما ألغيت في الدّية الحوارا[59]



5) الاهتدام :"وهو افتعال من الهدم فكأنه هدم البيت من الشّعر تشبيها بهدم البيت من البناء"[60] "نحو قول النّجاشي :



وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمت فيها يد الحدثان



فأخذ كثير [عزة] القسم الأوّل، واهتدم باقي البيت فجاء المعنى في غير لفظ فقال:



ورجل رمى فيها الزّمان فشلت"[61].



6) النّظر والملاحظة: قال أبو علي الحاتمي:" وهذه ضروب من الإشارة إلى المعنى، وإخفاء السّرّ"[62] فمثل قول المهلهل :



انتضوا معجس القسي وابرقـ ـا كما توعد الفحول الفحولا



نظر إليه زهير بقوله :



يطعنهم ما ارتموا حتّى إذا طعنوا ضارب حتّى إذا ما ضاربوا اعتنقا



وأبو ذؤيب بقوله :



ضروب لهامات الدّجال بسيفه إذا حنّ نبع بينهم وشريح[63]



7) الإلمام :" وهو ضرب من النّظر [والملاحظة]، وهو مثل قول أبي الشيص:



أجد الملامة في هواك لذيذة



وقول أبي الطّيّب [المتنبّي] :



أأحبه وأحبّ الملامة فيه"[64].



فالنّظر، والملاحظة وكأنّ الشّاعر ألقى نظرة، وأخذ لمحة من المنظر الذي هو في الأصل بيت شعر، ونسج بيتا آخر وفق ما تمثّله هذا النّظر والملاحظة العابرة في الذّهن، أمّا الإلمام فهو ضرب من النّظر، والملاحظة، لكنّه يبني على أكبر قدر من النّظر فيظهر أثر النّظر والملاحظة التي استقاها الشّاعر من البيت الأوّل.



8) الاختلاس : "فهو كقول أبي نواس:



ملك تصور في القلوب مثاله فكأنّه لم يخل منه مكان



اختلسه من قول كثير [عزّة]:



أريد لأنسى ذكرها فكأنّما تمثل لي ليلى بكلّ سبيل"[65].



9) العكس" كقول ابن قيس، ويروي لأبي حفص البصري:



ذهب الزّمان برهط حسان الأولى كانت مناقبــهم حديث الغابر



وبقيت في خلق يحلذ ضـيوفهم منهم بمـــنزلة اللئيم الغادر



سود الوجوه لئيمة أحسابــهم فطس الأنوف من الطّراز الآخر"[66]



فالبيت الأخير هو عكس بيت حسان بن ثابت :



بيض الوجوه كريمة أحسابهم شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل[67]



10) الموازنة مثل قول كثير :



تقول مرضنا فما عدتنا وكيف يعود مريض مريضا



وزان في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:



بخلنا لبخلك قد تعلمين وكيف يعيب بخيل بخيلا[68]



فالشّطر الأخير عند كثير، وكذلك عند نابغة بني تغلب على وزن واحد ،وبناء واحد.



11) الالتقاط والتّلفيق: "وهي ترقيع الألفاظ، وتلفيقها، واجتذاب الكلام من أبيات حتّى ينظم بيتا"[69]



مثل قول يزيد بن طثرية:



إذا ما رآني مقبلا غضّ طرفه كأنّ شعاع الشّمس دوني يقابله



فأوّله من قول جميل [بن معمر]:



إذا ما رأوني طالعا من ثنية يقولون : من هذا ؟ وقد عرفوني



ووسطه من قول جرير:



فغضّ الطّرف إنّك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا



وعجزه من قول عنترة الطّائي :



إذا أبصرتني أعرضت عني كأنّ الشّمس من حولي تدور[70]



12) كشف المعنى: "وإبرازه بزيادة منه تزيده نصاعة وبراعة"[71]



نحو قول امرئ القيس :



نمش بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب



وقال عبدة بن الطبيب:



ثمت قمنا إلى جرد مسوّمة أعرافهن لأيدينا مناديل



فكشف المعنى ،وأبرزه"[72].



13) المجدود : "وأمّا المجدود من الشّعر فنحو قول عنترة العبسي:



وكما علمت شمائلي وتكرمي



رزق جدّة واشتهارا على قول امرئ القيس:



وشمائلي ما قد علمت وما نبحت كلابك طارقا مثلي"[73]



14) المواردة : "وأمّا المواردة فقد ادّعاها قوم في بيت امرئ القيس، وطرفة، ولا أظنّ هذا ممّا يصّح "[74].



والمقصود هنا بيت امرئ القيس حين قال في معلقته:



وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل[75]



وبيت طرفة بن العبد في معلقته عندما قال:



وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد[76]



إلاّ أنّهم ذكروا أنّ طرفه لم يثبت له البيت حتى استحلف أنّه لم يسمعه قط، فحلف، وإذا صّح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر [واحد] [77].



أمّا ابن الأثير فإنّه يجعل السّرقة نسخا، وسلخا، ومسخا، فنجده يقول: "واعلم أنّ علماء البيان قد تكلموا في السّرقات الشّعرية فأكثروا، وكنت ألّفت فيه كتابـا، وقسّمته ثلاث أقسام نسخا، وسلخا ومسخا.



- أمّا النّسخ فهو أخذ اللفظ، والمعنى برمّته من غير زيادة عليه مأخوذ ذلك من نسخ الكتاب.



- أمّا السّلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذ ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ.



- أمّا المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه، مأخوذ ذلك من مسخ الآدميين قردة، وهناك قسمان آخران أخللت بذكرهما في الكتاب الذي ألّفته، فأحدهما أخذ المعنى مع الزّيادة عليه، والآخر عكس المعنى إلى ضدّه، وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ"[78].



ولأهمية ما قاله ابن الأثير نجد أنفسنا أمام بسط ما قاله في كلّ هذا، ولو بشيء من الإيجاز والاختصار.



1) "أمّا النّسخ : فإنه لا يكون إلاّ في أخذ المعنى ،واللفظ جميعا ،أو في أخذ المعنى، وأكثر اللفظ لأنّه مأخوذ من نسخ الكتاب، وعلى ذلك فإنّه ضربان :



الضّرب الأوّل : ويسمّى وقوع الحافر على الحافر كقول امرئ القيس:



وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجمّل



وكقول طرفة :



وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم يقولون لا تهلك أسى وتجلّد"[79]



الضّرب الثّاني :" من النّسخ ،وهو أن يؤخذ فيه المعنى، وأكثر اللفظ كقول بعض المتقدّ مين يمدح معبدا صاحب الغناء:



أجاد طويس والشّريحي بعده وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد



ثمّ قال أبو تمّام:



محاسن أصناف المغنين جمّة وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد"[80]



والجدير بالملاحظة والمقارنة هنا أنّ الأمثلة التي قدمها ابن الأثير في ضربي النّسخ تصلح كأمثلة للتّضمين، وهو إذ ذاك يناقض نفسه حين عرف التّضمين، وقال بعدما عرفه بأنّ القصد منه الاستعانة على تأكيد المعنى[81]، ثمّ يضعه بعد هذا بصفحات قليلة في باب السّرقات، وكان بإمكانه التّفصيل بين السّرقة والتّضمين فيستثني هذا من ذاك.



2) "أما السّلخ : فإنّه ينقسم إلى اثني عشر ضربا، وهذا تقسيم أوجبته القسمة، وإذا تأملته أنّه لم يبق شيء خارج عنه.



- فالأوّل أن يؤخذ المعنى، ويستخرج منه ما يشبهه، ولا يكون هو إيّاه، وهذا من أدقّ السّرقات مذهبا، وأحسنها صورة، ولا يأتي إلاّ قليلا. فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة [الطّرماح بن حكيم الطّائي]:



لقد زادني حبّا لنفسي أنّني بغيض إلى كلّ امرئ غير طائل



أخذ المتنبّي هذا المعنى، واستخرج منه معنى آخر غيره إلاّ أنّه شبيه به فقال :



وإذا أتتك مذمّتي من ناقص فهي الشّهادة لي بأنّي فاضـل



[...] فذمّ النّاقص إيّاه كبغض الّذي هو غير طائل ذلك الرّجل [الطّرماح] وشهادة ذمّ النّاقص إيّاه بفضله كتحسين بغض الّذي هو غير طائل نفس ذلك الرّجل عنده [أي عند الطّرماح]"[82].



- "الضّرب الثّاني : أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ ،وذلك مما يصعب جدا، ولا يكاد يأتي إلاّ قليلا"[83].



- "الضّرب الثّالث : وهو أخذ المعنى، ويسير من اللفظ، وذلك من أقبح السّرقات، وأظهرها شناعة على السّارق"[84].



- "الضّرب الرّابع : وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس، وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حدّ السّرقة"[85].



- "الضّرب الخامس : أن يؤخذ بعض المعنى"[86].



- "الضّرب السّادس : وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر"[87].



- "الضّرب السّابع : وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى"[88].



- "الضّرب الثّامن : وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا، وذلك أحسن من السّرقات لما فيه من الدّلالة على بسطة النّاظم في القول، وسعه باعه في البلاغة"[89].



- "الضّرب التّاسع : وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصّا، أو خاصّا فيجعل عاما"[90].



-" الضّرب العاشر : وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنى، وذلك بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه"[91].



-" الضّرب الحادي عشر: وهو اتّحاد الطريق، واختلاف المقصد، ومثاله أن يسلك الشّاعران طريقا واحدة فتخرج بهما إلى موردين أو روضتين، و هناك يتبين فضـل أحـدهما على الآخر"[92] -­



3)" أمّا المسخ : فهو قلب الصّورة الحسنة إلى صورة قبيحة، والقسمة تقتضي أن يقرن إليه ضدّه، وهو قلب الصّورة القبيحة إلى صورة حسنة فالأوّل كقول أبي تمّام:



فتى لا يرى أنّ الفريضة مقتل ولكن يرى أن ّالعيوب مقاتل



وقول أبي الطّيّب المتنبّي :



يرى أنّ ما بان منك لضارب بأقتل ممّا بان منك لعائب



فهو وإن لم يشوّه المعنى فقد شوّه الصّورة "[93].







"أما قلب الصّورة القبيحة إلى صورة حسنة فهذا لا يسمّى سرقة بل يسمّى إصلاحا، وتهذيبا، فمن ذلك قول أبي الطّيّب المتنبّي:



لو كان ما تعطيهم من قبل أن تعطيهم لم يعرفوا التّأميلا



وقول ابن نباتة السّعدي:



لم يبق جودك لي شيئا أومله تركتني أصحب الدّنيا بلا أمل"[94]



فالصّورة عند ابن نباتة أحسن وأجمل إذ أن جود ممدوح ابن نباتة السّعدي هو الّذي قضى على الأمل فكلّ ما يطلب موجود من غير أمل منه، أما جود ممدوح المتنبّي هو دافع الأمل بل به وجد ليطلب أكثر.



وكذلك أخذ المعنى مع الزّيادة عليه[95]، وعكس المعنى إلى ضدّه[96]، ضف إلى هذا ما تناوله النّقّاد المتقدّمين من أنواع بديعية مثل الاقتباس، التضمين، الحل، العقد التلميح، العنوان، والتمثل.



الاقتباس وهو أن يضمّن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنّه منه[97].



وكمثال عليه قول الحافظ العلاّمة ابن حجر العسقلاني :



خاض العواذل في حديث مدامعي ما جرى كالبحر سرعة سـيره



فحبسته لأصون سـرّ هواكــم حتّى يخوضوا في حديث غيره"[98]



فالشّطر الأخير من البيت الثّاني مقتبس من قوله تعالى "﴿وقد نزّل عليكم في الكتاب أنّ إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديث غيره إنّكم إذا مثلهم ﴾[99].



وقال الصّاحب بن عباد:



أقول وقد رأيت له سحابا من الهجران مقبلة إلـينا



وقد سحبت غواديها بهطل حوالينا الصّدود ولا علينا



فالصّاحب [بن عباد] اقتبس من قوله عليه الصّلاة والسّلام حين استسقى وحصل نزول مطر عظيم "اللهم حوالينا ولا علينا"[100]-"[101].



والاقتباس يكون في النثر مثلما يكون في الشعر.



والتّضمين فهو أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير مع التّنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء"[102].



ومثال على ذلك "يقول بعض المتأخّرين قيل هو ابن التّلميذ الطّيّب النّصراني:



كانت بلهنية الشبيبة سكرة فصحوت واستبدلت سيرة مجمل



(وقعدت أنتظر الغناء كراكب عرف المحل فبـات دون المنزل)



فالبيت الأخير لمسلم بن الوليد الأنصاري"[103].



"وقول ابن العميد:



وصاحب كنت مغبوطا بصحبته دهرا فغـــادرني فردا بلا سكن



هبت له ريح إقبال فطــار بها نحو السّرور وألـجاني إلى الحزن



كأنّه كان مطويا على احـــن ولم يكن في ضروب الشّعر أنشدني



(إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا من كان يألفهم في الـمنزل الخشن)



فالبيت [الأخير] لأبي تمّام"[104] من قصيدة قالها في أبي الحسن على بن مرّ والبيت هذا كان آخر القصيدة [105]، وأوّلها:



أراك أكبرت إدماني على الدّمن وحملي الشّوق من جادٍ ومكتمن[106]



ونلاحظ أن ابن العميد على شهرة البيت المضمّن إلاّ أنّه نبّه عليه في الشّطر الّذي قبل البيت عندما قال :" ولم يكن في ضروب الشّعر أنشدني"، ثمّ أورد البيت المضمّن، فالإنشاد لا يكون إلاّ قول مضى قوله سابقا.



والحلّ: الحلّ في علم البلاغة "وهو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحلّ منه عقدة الوزن فيصيّره منثوراً" [107].



كما روي عن إبراهيم بن العباس الصّولي أنّه قال: " ما اتكلت قط في مكاتبتي إلاّ على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري إلاّ قولي " فأبدلوه آجالا من آمال " فإنّي حللت قول مسلم بن الوليد:



هوف على مهج في يوم ذي رهج كأنّه أجل سعى إلى أمل[108]



وكقول بعض كتاب العصر في وصف السّيف: أورثه عشق الرّقاب نحولا فبكى مطرا تزيد الخدود محولا[109]



حلّ قول أبي الطّيّب [ المتنبّي ]:



في الخدّ إن عزم الخليط رحيلا مطر تزيد به الخدود محولا[110].



والعقد: عرف أسامة بن منقد العقد إلى جانب الحلّ فقال: "اعلم أنّ الحلّ والعقد هما ما يتفاضل فيهما الشّعراء والكتاب، وهو أن يأخذ لفظا منثورا فينظمه أو شعرا فينثره[111].- مع الاتّفاق في المعنى"[112] "العقد هو أن ينظم نثرا لا على طريق الاقتباس"[113]، "وهو أن ينظم الشّاعر نثرا قرآنا كان أو حديثا أو مثلا أو غير ذلك لا على طريق الاقتباس"[114] "فالعقد نظم المنثور"[115].



كقول الشّاعر:



اتلني بالّذي استقرضت خطا وأشهد معشرا قد شاهـدوه



فإنّ الله خلاق البـــرايـا عنت لجلال هيبته الوجوه



يقول :إذا تداينتم بديـــن إلى أجل مسمّى فاكـتبوه[116]



فالشّاعر عقد في البيت الثّالث قول الله تعالى "﴿ يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه﴾"[117]، وقد أشار بأنّه قول الله تعالى بقوله: " يقول إذا تداينتم ..." بالإضافة إلى ما قاله في البيت الثّاني.



و مثال على عقد الحديث الشّريف،" كما رويّ عن الشّافعي رضيّ الله عنه:



عمدة الخير عندنا كلمــات أربع قالهنّ خير الـبريّة



اتّق الشّبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملنّ بنيّة



عقد قوله عليه السّلام " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات [ فاتّقوا الشّبهات ]"[118] وقوله عليه السّلام "ازهد في الدّنيا يحبّك الله [ وازهد في ما عند النّاس يحبّك النّاس]"[119] وقوله عليه السّلام "من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه "[120]، وقوله عليه السّلام " إنّما الأعمال بالنيّات [ ولكلّ امرئ ما نوى] "[121]" -[122] -() .



وعقد الشّافعي أربعة أحاديث على جهة قال الرّسول ولكن بأسلوب الكناية، لأنّه قال في البيت الأوّل "أربع قالهنّ خير البريّة" وهي كناية عن موصوف وهو الرّسول صلّى الله عليه وسلّم.



وكمثال على عقد الأقوال المأثورة والأمثال.



كما فعل أبو تمّام في كلام عزّى به عليّ رضي الله عنه الأشعت بن قيس وهو: "إن صبرت صبر الأكارم وإن سلوت سلوّ البهائم" فقال:



وقال عليّ في التّعازي للأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم



أتصبر في البلوى عزاء وحسبة فتـؤجر أم تسلو سلوّ البهائم[123]



وقول الآخر:



يا صاحب البغيّ إنّ للبغيّ مصرعه فارجع فخير فعال المرء أعد له



فلو بغى جبل يوما علـــى جبل لأنــّـــدك منه أعاليه أسفله



عقد قول ابن عباس رضيّ الله عنهما:" لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي..." [124]



والتّلميح :وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو شعر نادر أو قصّة مشهورة من غير أن يذكره [125]،



"وذلك نحو قول أبي تمّام:



لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظي أرق وأحفى منك في ساعة الكرب



أراد البيت المضروب به المثل:



المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرّمضاء بالنّار"[126]



عمرو هذا هو عمرو بن الحارث، وأصل القصّة أنّ كليبا لما رمى ناقة البسوس يقال لها سراب بسهمه فقتلها ، فصاحت البسوس، فسمعها جساس ابن أختها فتوعد كليبا بالقتل، وكان معه صديقه عمرو بن الحارث، فأدرك جساس كليبا فرماه برمح، ثمّ أدركه عمرو بن الحارث، فقال له كليب: ياعمرو أغثني بشربة ماء، لكنّه أجهز عليه، فقيل البيت فسار مثلا[127].



و"كقول أبي تمّام:



لحقنا بأخراهم وقد حوم الهــوى قلوبا عهدنا طيرها وهي وقــع



فردت علينا الشّمس والليل راغـم بشمس لهم من جانب الحذر تطلع



نضا ضوئها صبغ الدّجنة وانطوى لبهجتها ثوب السّماء المــجزع



فو الله ما أدري أأحلام نــــائم ألمت بنا أم كان في الرّكب يوشع؟



أشار إلى قصّة يوشع بن نون فتى موسى عليهما السّلام واستيقافه الشّمس ،فإنّه روي أنّه قاتل الجبارين يوم الجمعة فلما أدبرت الشّمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ويدخل السّبت فلا يحلّ له قتالهم فدعا الله فردّ له الشّمس حتّى فرغ من قتالهم"[128] .



"ومن التّلميح ضرب يشبه اللغز كما رويّ أنّ تميميّا قال لشريك النّميري: ما في الجوارح أحبّ إليّ من البازي، قال النّميري : إذا كان يصيد القطا.



أشار التميميّ إلى قول جرير:



أنا الباز المطلّ على نمير أتيح لها من السّماء لها انصبابا



وأشار النّميري إلى قول الطّرماح:



تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ولو سلكت طرق المكارم ضلّت"[129]



- والعنوان: وهو أن يأخذ المتكلّم في غرض له من وصف ،أو فخر ،أو مدح ،أو هجاء ،أو عتاب ،أو غير ذلك ثمّ تأتي لقصد تكميله بألفاظ تكون عنوانا للأخبار متقدّمة، أو قصص سالفة "[130].



"كقول أبي تمّام لأحمد بن أبي داود:



تثبت أن قولا كــان زورا أتى النّعمــان قبلك في زياد



فأرث بين حيّ بنــي جلاح لظـى حرب وحيّ بني مصاد



وغادر في صدور الدّهر قتلى بني بدر علــى ذات الأصاد



فأتى بعنوان مشير إلى قصة النّابغة حين وشى به الواشون إلى النّعمان [ بن المنذر بن ماء السّماء] وما جرّ ذلك السّعي من الحروب التي انطوت عليها قطعة من أيام العرب"[131] ،"وذكر في البيت الثّاني عنوانا آخر أشار فيه إلى ما جرى بين بني عبس وبين بني بدر على غدير ذات الأصاد"[132].



"وقول صفيّ الدّين الحلّي في بديعيته:



والعاقب خير في نجران لاح له يوم التّباهل عقبى زلّة القدم



[...] والإشارة في بيت القصيدة إلى العاقب عبد المسيح، أسقف نصارى نجران حين أتى لمباهلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ،وأنزل الله تعالى عليه قوله سبحانه "﴿ قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكذّابين﴾"[133]-[134].



فقال عبد المسيح لقومه: " لا تباهلوا محمّدا فإنّي أرى معه وجوها لو أقسم بها على الله أن يزيل الجبال لأزالها فتهلكوا إلى آخر الأبد، ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصرانيّ إلى يوم القيامة [....] فانصرف النّصارى، وقبلوا الجزية "[135].



- وضرب المثل من القرآن أو الحديث الشريف، "وهو عبارة أن يأتي الشّاعر في بعض بيت بما يجري مجرى المثل من الحكمة، أو نعت ،أو غير ذلك مما يحسن التّمثّل به[136]"، "المثل السّائر في كلام العرب كثير نظما ونثرا وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه"[137].



"ويلتحق بهذا الباب ما يخرجه المتكلّم مخرج المثل السّائر كقوله تعالى "﴿ليس لها من دون الله كاشفة﴾"[138] [...] وقوله عليه السّلام "لا ضرر ولا ضرار"[139] "-[140].



ومن الآيات والأحاديث الّتي تجري مجرى الأمثال كثير نذكر منها، فمن القرآن "﴿كمثل العنكبوت اتخذ بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت﴾"[141]، وكذلك ﴿"كمثـل الحمـار يحـمل أسفارا﴾"[142]. وكذلك "﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾"[143] .



ومن السّنّة الشّريفة، "لا يلدغ المؤمن من الجحر الواحد مرتين"[144]، وكذلك "ليس الخبر كالمعاينة"[145] -[146] - .



وإلى غير ذلك من التّصنيفات والتّقسيمات والأنواع، سواء كانت في السّرقات الأدبيّة المستحسنة أو المستهجنة، أو الأنواع البديعية، فالاصطراف والاجتلاب، والانتحال، والإغارة، والمرافدة، والاهتدام، والنّظر والملاحظة، والإلمام، الاختلاس، والعكس، والالتقاط والتّلفيق، كشف المعنى، المجدود، وما أورده ابن الأثير من تصنيفات للسّرقات كالنّسخ، والسّلخ، والمسخ، وكذلك أخذ المعنى مع الزّيادة عليه، وعكس المعنى إلى ضدّه، ضف إلى هذا ما تناوله النّقّاد المتقدّمين من أنواع بديعية، كالاقتباس، والتّضمين، والحلّ، والعقد، والتّلميح، والعنوان، والتّمثل...، وإلى غير ذلك، فكلّ ما ذكرناه سابقا تدلّ على حضور نصّ أو نصوص في نصّ آخر باختلاف الكيفية والطّريقة والمنهج طبعا، وهي ستة وعشرون مصطلحا من النّقد العربيّ القديم كلّ واحد منها هو وجه من أوجه التّناصّ، وإن كنا نجد كثيرا من الدّارسين يقول إنّ السّرقات الأدبيّة في النّقد العربيّ لها بعد الاستهجان والاستنكار، بينما التّناصّ له قيمة إبداعية، ولكن ماذا سيطلقون على السّارق الأدبيّ إذا ثبتت إدانته؟، هل سيسمّونه تناصّ؟، فأيّ دارس بسيط سيقول: لا سنسميه سارقا أدبيا فنقول فكذلك السّرقة الأدبيّة، وكما رأينا لها شروط الاستحسان والاستهجان عند كلّ ناقد، ولربّما اشترك فيها أو في بعضها كلّ النّقّاد فأخذ المعنى والذّهاب به بعيدا لم يكن أبدا يدرج ضمن السّرقات الأدبيّة هذا على سبيل المثال فقط.



وما يمكن إضافته هاهنا على سبيل المقارنة، وهو التّناصّ الظّاهر، وتناص الخفاء أو كما هو عند باختين وفورليشوف خطّي وتصويري فهو نفسه عند الخطيب القزويني السّرقة الظّاهرة وغير الظّاهرة[147]، وأيضا أنّ السّرقة أحد أنواع التّناصّ، "ففي أطرحة جامعية نوقشت سنة 1988 بجامعة باريس III تحت عنوان "الممارسة التّناصّيّة عند مارسيل بروست من خلال البحث عن الزّمن الضّائع (مجالات الاقتراض)



La pratique intertextualité, Marcel Proust, dans à la recherche du temps perdu (les domaines d’emprunt)



وصدرت ضمن منشورات Titre سنة 1990 تحت عنوان: "مارسيل بروست لعبة التّناصّ" أبرزت الباحثة أنيك بوياكي Annik Bouiaquet بوضوح إمكان تنظيم الاقتراض التّناصّي l’emprunt intertextual بواسطة تقاطع مفهومي الحرفي والواضح littéral et explicité



- الاستشهاد اقتراض حرفي وواضح.



- السّرقة اقتراض حرفي وغير واضح.



- الإحالة اقتراض واضح وغير حرفي.



- التّلميح اقتراض غير واضح وغير حرفي"[148].



فالسّرقة إلى جانب الاستشهاد والإحالة والتّلميح هي وجه من أوجه التّناص حسب هذا التّقسيم ،وممّا نضيفه على هذا التّقسيم هو أنّ السّرقة لا تكون بشكل حرفي دائما فقد تكون بشكل غير حرفي ،بل هذا هو الغالب لإخفاء ما سرق في حالة السرقة المستهجنة والمنبوذة.



غير أنّ التّناصّ بشتمل على بعض المصطلحات والتّقسيمات لا نجد لها ما يشاكلها أو ما يقاربها من مصطلحات النّقد العربي القديم، وهذه المصطلحات هي:



01-النّصّيّة المتوازية"paratextualité”والمتمثلة في تناص العناوين الرّئيسية والفرعية والدّاخلية،والدّيباجات،والحواشي ،والهوامش.



02-النّصّيّة الواصفة “metatextualité“ شرح أو تعليق على نصّ سابق في نصّ لاحق دون الاستشهاد به أو حتّى ذكره أصلا.



03- النّصّيّة الجامعة “l architextualité “ وهي تعني الخصائص والمميّزات الجامعة بين الأصناف الأدبيّة،أو المعايير والسّمات الّتي وفقها تصنف الأعمال الأدبيّة ، أو مميزاتها أو ما يميزها عن غيرها.



وعندما نقول بأنّ هذه المصطلحات لا يوجد ما يقاربها في النّقد العربيّ القديم فهو ليس بالأمر الجازم،ويحتفظ بحقّ بالمراجعة،فيمكن أن يكون على عكس هذا ،ونقيض ذاك ،فما قاله وما كتبه النّقّاد العرب المتقدّمين أكبر من يحتويه إنسان،ولو عاش دهرا من الزّمان. فقد تكون هذه المصطلحات في ثنايا هذا الكتاب أو ذاك.



التّناصّ كما رأينا من خلال التّعريفات وما سردناه سابقا بأنّه ينحصر في إحياء نصّ أو نصوص سابقة في نصّ لاحق أو استدعائها للحضور في نصّ، أو لنقل مثلا أنّ النّصّ ما هو في الأخير إلاّ مجموعة نصوص تتقاطع فيما بينها بطريقة أو بأخرى لتبني نصّا جديدا ،وفق آليات معينة.



وإذا ما ذهبنا إلى تعريف الاقتباس والتّضمين فهو إما اقتطاع أو إلحاق شيء من القرآن أو الحديث أو الشّعر ليدرج في نصّ لاحق ليصبح وكأنّه منه ،وأنّ صاحب النّصّ اللاحق هو قائله، وعلى هذا فالأمر هنا واضح، ولا ينتطح فيه عنزان على أنّ الاقتباس، والتّضمين يدخلان كأولى المصطلحات النّقديّة العربيّة القديمة على أنّهما وجه من أوجه التّناصّ في النّقد الغربيّ الحديث.



وإنّ كثيرا من الباحثين والدّارسين العرب المحدثين يرون بأنّ الاقتباس والتّضمين هي مفاهيم تدخل في مفهوم التّناصّ. فسعيد يقطين يقرّ بأنّ الاقتباس والتّضمين والاستشهاد هي مفاهيم تدخل في إطار التّعالق النّصّي.[149]



ويقول د. جابر عصفور: "وكان هدف [جيرار جينيت] من ذلك تعميق فهم خمسة أنماط من هذه العلاقات أوّلها التّناصّ Intertextualité الّذي يفهمه جينيت على أنّه حضور نصّ في نصّ غيره، ويدخل في ذلك الاقتباس والتّضمين والإشارة [وما شابه ذلك]"[150].



ود. نور الدّين السّد يضع مقاربة بين التّناصّ والمصطلحات النّقدية العربيّة القديمة، ويضع الاقتباس والتّضمين من بين هذه المصطلحات، إلى جانب المناقضة، والمعارضة، وتداول المعاني، وحتّى السرقة من المصطلحات الّتي تدخل في مفهوم التّناصّ[151].



ومفيد نجم فإنّه عندما يقسم التّناصّ إلى تناص ظاهر، وتناص خفاء، فيجعل التّناصّ الظّاهر مشتملا على الاقتباس والتّضمين، وتناص الخفاء يقوم على الامتصاص التّذويبي والتّحويل والتّفاعل النّصّي[152].



وعبد السّتار جبر الأسدي عندما تطرق إلى أقسام التّناصّ عند فورليشنوف وباختين، وجعلاه خطّي وتصويري، فالخطّي نظر إليه عبد السّتار جبر الأسدي بأنّه يقترب من الاقتباس والتّضمين بوجود الإحالة أو غيابها، وهو بذلك تناص ظاهر والتّصويري يخفي النّصّ الغائب في نسيجه، وهو إذ ذاك تناص خفاء أو مستتر[153].



وعلى هذا فإنّ الاقتباس والتّضمين هما مفهومين يدخلان في مفهوم التّناصّ، وخاصة النّوع الأوّل من الأنواع الخمسة الّتي حدّدها جيرار جينيت وهو التّناصّ Intertextualité، وهذا لاختلاف الاقتباس والتّضمين مع الأنواع الأربعة الأخرى وهي (architexte, hypertexte, paratexte, metatexte).



مقاربة فكرة حتمية التناص إزاء كل نص:



في النّقد المعاصر ظهرت عدّة آراء إزاء النّصّ، ولعلّ من أكثرها صدى ذلك الرّأي الّذي يقرّ بحتمية التّناصّ في كلّ نصّ، أو أنّ أيّ نصّ ما هو إلاّ مجموع نصوص سابقة له أو متزامنة معه تتقاطع، وتتكاثف فيما بينها باختلاف الطّرق، والمناهج، والكيفيات لتصنع نصّا جديدا، وفي هذا الصدد يقول "ميشال فوكو": "لا وجود لما يتولد من ذاته بل من تواجد أصوات متراكمة متسلسلة، ومتتابعة"[154]، ويرى "تيري انجلتن" أنّ الأدب دوران بيئي[155]، "ومالرو[malraux] يرى أنّ الإنتاج الفنّيّ ليس وليد رؤية الفنان، لكنّه محصّلة النّصوص الأخرى"[156]، وميخائيل باختين يقول: "كلّ نصّ يقع عند المتلقي [هو] مجموعة من النّصوص الأخرى يعيد قراءتها، ويؤكدها ويكثّفها ويحوّلها، ويعمقها في نفس الوقت"[157]، ويعرف رولان بارت النّصّ بأنّه "نسيج من الاقتباسات، والإحالات، والأصداء من اللغات الثّقافية السّابقة، أو المعاصرة الّتي تخترقه بكامله"[158]، ويضيف رولان بارت قائلا: "ليس أن تعطي النّصّ معنّا مؤسّسا، أو حرا وإنّما أن تقدر من أي جمع pluriel يتكون"[159]، و"الكتابة هي إعادة إنتاج مستمرة، ودائمة بأشكال مختلفة لهذا الكلام الأوّل الّذي لم يكن مكرورا هو ما نطق به آدم كما ذهب إليه رولان بارت"[160]، وتقول جوليا كرستيفا: "إنّ كلّ نصّ هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من الاقتباسات، وكلّ نصّ هو تشرب، وتحويل نصوص أخرى"[161].



إن التناص هو تضمين نص في نص آخر، وهو أبسط تعريف له، أو هو استدعاؤه أو هو تفاعل خلاق بين النص المستحضِر والنص المستحضَر، فالنص ليس إلا توالد لنصوص سابقة[162]، و التناص شيء لا مناص منه، لأنه لا فكاك للإنسان من شروطه الزمانية والمكانية، ومحتوياتهما، ومن تاريخه الشخصي أي من ذاكرته، فأساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم[163]، لأنه يستحيل وجود مبدع يكتب نصا أدبيا دون سابق تعامل معمق، ومكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو مجالات معينة[164]، فالشاعر يعيد إنتاج ما تقدمه وما عاصره من نصوص مكتوبة وغير مكتوبة ، أو ينتقي منها صورة أو موقفا دراميا أو تعبيرا ذا قوة رمزية[165].



هذا حشد من الأقوال والآراء "يرى فيها كثير من الدّارسين حتمية التّناص إزاء كلّ نصّ، ويعتبرونه قانون كلّ النّصوص جميعا، وأنّ "كلّ نصّ هو تناصّ"[166]، وحتمية التناص إزاء كل نص نجدها عند النّقّاد العرب المتقدّمين ويؤكدون بأنّ السّقوط في دائرة السّرقة أمر محتوم لا مناص منه لأحد، هذا إذا قبل القارئ معي فكرة أن السرقة تقابل التناص، وكنا قد شرحنا فكرة السرقة فالنقاد العرب أخذوها بمعيار نقدي وليس بمعيار خلقي، وعلى كل فالنقاد العرب المتقدمون وضعوا السرقات على نوعين مستحسنة ومستهجنة، والسرقات المستحسنة هي ما نقصده هنا وستتوضح الرؤيا مع هذه الأمثلة.



يقول ابن رشيق القيرواني (ت 456 هـ) عن السّرقة: "هذا باب متّسع جدّا لا يقدر أحد من الشّعراء أن يدعي السّلامة منه، وفيه أشياء غامضة إلاّ عن الحاذق بالصّناعة، وأخرى فاضحة لا تخفى عن الجاهل الغافل"[167]، ويقول الجاحظ (ت 255 هـ): "لا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تامّ، أو في معنى غريب عجيب، أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلاّ وكلّ من جاء من الشّعراء من بعده، أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره، فإنّه لا يدع أن يستعين بالمعنى، ويجعل نفسه شريكا فيه"[168]، ويقول ابن طباطبا (ت 366 هـ) في هذا الصّدد: "إن الشّعراء السّابقين غلبوا على المعاني الشّعرية فضاق السّبيل أمام المحدثين ولم يكن من الأخذ بدّ"[169]، ويذهب الآمدي(ت370هـ) في هذا الطّريق إذ يقول: "إنّ السّرقة ليست من مساوئ الشّعراء، وخاصّة المتأخّرين إذ كان هذا بابا ما تعرى منه متقدّم، ولا متأخّر"[170].



وابن طباطبا (366 هـ) يرى بأنّ الشّعراء يسرقون الكتاب، والخطباء والبلغاء، وهؤلاء بدورهم يسرقون من الشّعراء، وكأنّها علاقة تبادل حيث يقول: "فالشّعر رسائل معقودة، والرّسائل شعر محلول، وإذا فتشت أشعار الشّعراء كلها وجدتها متناسبة إما تناسبا قريبا أو بعيدا وتجدها متناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر الحكماء"[171]، ويقول الحاتمي(388 هـ) أيضا في هذا الباب: "ومن الشّعراء المطبوعين طائفة تخفي السّرق وتلبسه اعتمادا على المنثور دون منظومه، واستراقا للألفاظ الموجزة، والفقر الشّريفة، والمواعظ الواقعة، والخطب البارعة"[172]، وتبعهما أبو هلال العسكري (395 هـ) في هذا عندما قال: "وأحد أسباب إخفاء السّرق أن يأخذ معنى من نظم فيورده في نثر، أو من نثر فيورده في نظم"[173]، ويسير ابن رشيق القيرواني(456 هـ) في نفس الطريق حيث يقول: "وأجلّ السّرقات نظم النّثر وحلّ الشّعر"[174].



ونجد كعب بن زهير بن أبي سلمى الشّاعر المخضرم بين العصر الجاهلي والإسلامي يقول بيتا من الشّعر يصبّ معناه فيما قلناه سابقا:



ما أرانا نقول إلاّ رجيعا ومعادا من قولنا مكرورا[175]



فكعب بن زهير يرى بأن شعراء عصره يعيدون ما قاله الأسلاف، فما بالنا نحن اليوم. أو كما قال الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:



هل غادر الشّعراء من متردم أم هل عرفــت الدّار بـعد تـوهم؟ [176]



فعنترة بن شداد يقول في صدر البيت بأن الشعراء السابقين تداولوا كل المعاني والتعابير ولم يتركوا شيئا حتى يقال فيه.



فما ذهب إليه النقاد الغربيون هو نفسه عند النقاد العرب المتقدمون.







مقاربة التّناصّ الدّاخلي في النّقد العربيّ القديم



التّناصّ الدّاخلي كما رأينا هو إعادة الكاتب لإنتاجه السّابق في إنتاج له لاحق، وعندما نقلب صفحات الكتب للنّقّاد العرب المتقدّمين نجد إشارات، وأقوال تنطبق مع هذا المفهوم انطباقا تامّا، ونجد أنّ النّقّاد المتقدّمين تفطنوا لأمره فنجد ابن طباطبا يقول: "وربّما أحسن الشّاعر في معنى يبدعه فيكرره في شعره على عبارات مختلفة، وإذا انقلبت الحالة الّتي يصف فيها ما يصف قلب ذلك المعنى، ولم يخرج عن حدّ الإصابة فيه"[177]، وكذلك أشار إلى هذا ابن يعقوب المغربي عندما قال معلقا على قول الخطيب القزويني فقال: " والأحسن أن يقول بدل قوله من شعر الغير [أن يقول] من شعر آخر، ما إذا ضمّن شيئا من شعر نفسه من قصيدة أخرى مثلا، لكن لقلّة التّضمين على هذا الوجه لم يعتبره"[178].



وتناول كذلك أبو منصور الثّعالبي في كتابه يتيمة الدّهر بابا لشعر المتنبّي تحت عنوان "بعض ما تكرر في شعره، ومعانيه"[179].



ويكون جلال الدّين السّيوطي له قصب السّبق في ابتداع البيت المفصّل حيث يقول: "ثمّ نبهت من زيادتي على نوع يشبه التّضمين، وهو التّفصيل بصاد مهملة، وهو أن يضمّن شعره مصراعا من نظم له سابق، وحسن التّمهيد له، والتّوطئة، وصرفه عن ذلك المعنى الّذي وضع له أوّلا"[180].



وكما كان القرآن الكريم الشّغل الشّاغل للبلاغيين، والمتكلّمين ،والفقهاء، والعلماء ،فلقد فطنوا إلى تكرار القصص فيه، فتكلم ابن قتيبة "عن تكرار الكلام والزّيادة فيه وتكرار قصص القرآن"[181]، وتكلّم كذلك جلال الدّين السّيوطي على "تكرار النزول للآية الواحدة في القرآن الكريم"[182]، وما أكثر العلماء، والبلغاء بين هذا وذاك الّذين تكلّموا عن التّكرار في القرآن، والمتشابه فيه.



وتناول الجاحظ أمر تكرار المعاني، والقصص في القرآن فقال: "وقد رأينا الله عز وجل ردّد ذكر قصّة موسى، وهود، وهارون، وشعيب، ولوط وعاد وثمود، وكذلك الجنّة والنّار وأمور كثيرة، لأنّه خاطب جميع الأمم من العرب، وأصناف العجم، وأكثرهم عيّ غافل، أو معاند مشغول الفكر ساهي القلب، وأمّا أحاديث القصص، والرّقّة [ أي المواعظ]، فإنّي لم أر أحدا يعيب ذلك، وما سمعناه بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الألفاظ، وترداد المعاني عيّا".[183]



وبعد كلّ هذه الآراء، والأقوال، والأدلّة، فإنّ التّناصّ الدّاخلي عرفه النّقّاد العرب المتقدّمين ولربّما كان أكثر من التّناصّ في حدّ ذاته معرفة به، وتفطنهم لأمره.



بعد كل هذا القليل من كثير، ألا نرى بأن التناص كمصطلح أو كمفهوم عرفه النقاد العرب المتقدون قبل النقد الغربي الحديث بمائات السنين، بل من حيث المصطلح والمفاهيم كانت عندهم أشمل وأكثر تصنيفا وتقسيما وتحديدا .



قد تكون الصفحات القليلة غير كافية لمناقشة قضايا معينة، وندعو الله أن يوفقنا لرصد هذا في كتاب نأمل في إخراجه وطبعه إن شاء الله تعالى.



نشر هذا المقال بهوامشه في مجلة دراسات أدبية العدد الثاني 02 جانفي 2009 من الصفحة 91 إلى الصفحة 127 ومجلة دراسات أدبية مجلة علمية محكمة يصدرها مركز البصيرة للبحوث والدراسات بالجزائر











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق